الرحلة إلى العالم الآخر، أفلام “كوكو” coco و”سول” soul، محمود الضبع

الخيال الأدبي كان دائما هو الأسبق في معالجة القضايا والموضوعات التي تصعب مناقشتها صراحة في الحياة، سواء المرتبط منها بالواقع المادي المحيط (الفيزيقي)، أو عوالم الغيب وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقي)، ولعلنا نذكر في ذلك العلامة الكبرى في تاريخ البشرية، وهي “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، التي قام فيها برحلة روائية نقدية إلى العالم الآخر والسماوات العلا (من المنظور الإسلامي)، مع البطل “ابن القارح” الذي يحاور الشعراء والأدباء في الجنة والنار، ويشرح استشهاداتهم ويحللها، ويعلق عليها.

ثم تأتي المحطة التالية مع دانتي أليجوري في “الكوميديا الإلهية”، والتي أسهبت دراسات الأدب المقارن في رصد ملامح تأثرها برسالة المعري، على مستوى الموضوع، والأحداث، والبنية، والتقنيات، مع اختلاف التوجه العقائدي في احتكامها إلى الموروث المقدس المستمد عن المسيحية، وإن كان التأثر بالمعري قد فرض على الكوميديا الإلهية أن تستلهم بعض أفكار المقدس الديني الإسلامي.

وعبر التاريخ كانت هناك محاولات عديدة للأدب في أن يتجاوز حدود العالم المادي المحيط ليلتحم مع العوالم المتخيلة وغير المرئية، من عوالم الجن والشياطين ساكني قاع الأرض، وعوالم الملائكة والآلهة في السموات العلا، وعوالم الآخرة – غير محددة المكان- مع الموتى والراحلين.

هاجس الحياة الأخرى (ما بعد الموت) ظل يؤرق الفلاسفة والكتاب والمفكرين منذ ظهور الديانات على ظهر الأرض، ولم تستطع الحضارات المعاصرة بما طرحته من مادية واحتكام لقواعد العلم التجريبية التي لا تؤمن إلا بما يخضع للتجربة والحواس الإنسانية، لم تستطع البشرية عبر كل ذلك أن تتخلص من هاجس الحياة الأخرى، ومن التفكير فيه على نحو مؤرق.

وكانت الآداب والفنون هي الأقدر دائما على معالجة مثل هذا الموضوع الشائك، بل إن الفلاسفة وعلماء النفس ممن أرادوا التعبير عن أفكارهم بشأن العوالم الأخرى، لم يجدوا سوى الآداب والفنون ليعبروا من خلالها، ولعل ذلك يعود لذلك الحل السحري الذي تميزت به البشرية دون سواها من المخلوقات، وهو “الخيال”، فهو الوحيد القادر على نسج العوالم حول ما لم تصل إليه الخبرة الإنسانية، وهو في الآن ذاته يمتلك القدرة على المراوغة والهروب من أي سلطة تحاول محاكمته أو إدانته أو الحكم عليه…. فقد تواطأت البشرية منذ قديم عهدها على أن الخيال يمكنه أن يفتح الأبواب المغلقة، ويهدم الأسوار، وينتهك المقدس، ويخوض فيما يرغب أن يخوض فيه، ما دام سيغلف الأشياء لينحرف بها عن ربط علاقاتها المباشرة إلى علاقات افتراضية متخيلة..

ألم يكن هو الخيال، ذلك الذي لجأ إليه “بيدبا الهندي” عندما أراد أن ينصح الملك “دبشليم” الظالم، فلجأ إلى القص والحكي على لسان الحيوان في “كليلة ودمنة”، ليبلغ رسائله إلى الملك، دون أن تكون هناك أية شبهة في الإدانه أو التطاول أو استثارة غضب الملك؟

ألم يكن هو الخيال نفسه هو ما لجأ إليه “ابن سينا” عندما تخيل إنسانا نشأ على جزيرة بمفرده، ليختبر علاقة الإنسان المفرد – بعيدا عن أي مؤثرات خارجية- بالحياة والكون والدين والغريزة والفطرة في “حي بن يقظان”، والتي أعاد كتابتها من بعده “شهاب الدين السهرودي” ثم “ابن طفيل الأندلسي” ثم “ابن النفيس” وإن كان كل منهم قد أسبغ عليها أفكاره وتوجهاته وأيديولوجياته (بالمعنى المعاصر).

أليس هو نفسه ذلك الخيال الذي يتحكم في صيروة الإبداع منذ نشأته وعلى اختلاف أشكاله من قصة ورواية ومسرحية وسيناريو وقصيدة ونص عابر للأنواع، وسينما ومسرح وكل الفنون البصرية؟

هكذا كان الخيال الأدبي هو الأقدر على محاولات الإنسان عبر التاريخ في سبر أغوار الغيبي، والانتقال إلى العوالم الأخرى غير المرئية، والتي سعت الأديان – السماوية والأرضية- جاهدة لأن ترسم صورة متخيلة – أيضا- عنها..

وفي عصرنا الحاضر، ومع هيمنة السينما بوصفها الفن السابع الذي احتوى كل الفنون الستة بداخله (من نحت وعمارة، ورسم وزخرفة، وتلوين تمثيلي صرف، وموسيقى، وإيماء ورقص، وأدب وشعر)، ظل هاجس العبور إلى العالم الآخر حاضرا، فحاولت كثير من التجارب السينمائية تصوير هذا العالم، وكان آخرها، تجربة فيلمي الرسوم المتحركة: كوكو coco، والذي صدر في أكتوبر ٢٠١٧م للمخرجين” لي إدوار أنريخ” و “أدريان مولينا”، وفيلم “soul” الذي صدر في ديسمبر ٢٠٢٠م للمخرج بيتي دوكتر، وكلاهما من إنتاج والت ديزني وبيكسار.

تحكي قصة فيلم كوكو، عن الطفل “ميجيل” الذي يحلم بأن يكون موسيقيا، لكن عائلته (التي تعمل في صناعة الأحذية) تمنعه بشده من حلمه أو لمس أي آلة موسيقية، وتكشف الأحداث أن السبب وراء هذا المنع المتعسف يعود لأن الجدة “إيميلدا” كانت متزوجة من موسيقيٍّ رحل وراء شغفه وتركهم دون عودة، أما الجدة “كوكو” (المسمى باسمها الفيلم) والصديقة لميجل، فهي والدة ميتيلدا، لكنها تعاني فقدان الذاكرة.

وبالمصادفة يكتشف ميجيل عن طريق جزء مخفي لصورة “كوكو ” مع والدها ووالدتها عندما كانت طفلة، أن جده الأكبر يحمل جيتار إرنستو دي لا كروز (الموسيقى الشهير)، وهو ما جعله يقتحم ضريح إرنستو ويأخذ جيتاره ليشارك في عرض المواهب المحلي دون أن تعلم أسرته.

وبمجرد أن بدأ العزف عليه، تحول كائنا غير مرئي، وامتلك القدرة على التعامل مع أقاربه المتوفين، وبالتالي أصبح انتقاله للعالم الآخر سهلا، حيث اكتشف هناك القوانين المنظمة للحياة، وأهمها، أن المتوفى يتمتع بكل الامتيازات الأخروية ما دام هناك من يتذكره على الأرض، ويعلق صورته على الحائط، وكلما تناساه أهله في الأرض، كلما فقد امتيازات، قد تصل لأن يكون هيكلا عظميا، ويعيش في الأحياء العشوائية..

وتتوالى الأحداث بين الدراما، ومحاولة تصوير ملامح وأبعاد العالم الآخر، والانتقال بين السماوي والأرضي في محاولة تقريب المسافات بينهما، من منظور مبهج اعتمد كثيرا على سحر الألوان والموسيقى، وتمرير حالة البهجة في كلا الحالتين (الحياة والموت).

أما فيلم “سول” بمعنى الروح، فيحكي عن “جو جاردنر”، عازف البيانو الأسود الفقير، الذي يعمل معلما للموسيقى، ويحلم بأن يجد فرصته في الحياة ويعزف موسيقى الجاز أمام العالم، وتتاح له الفرصة عندما يتصل به صديقه ليخبره أن هناك فرصة نادرة لأداء اختبار أمام فرقة أسطورة الجاز “دوريثا ويليامز”، وينجح بالفعل، وتطلب منه “دوريثا” أن يستعد لحفلة الليلة، فيخرج سعيدا راقصا، لكنه يسقط في حفرة (بالوعة) فتنفصل روحه عن جسده، ويجد نفسه روحا تتجه إلى أعلى في طريق “ما وراء العظيم”.

ولأنه غير راغب في الموت قبل أن يحقق حلمه في حياة الأرض بالعزف في حفل الليلة، لذلك يحاول الهرب، فيصل إلى منطقة اسمها “الماضي العظيم” حيث يقوم مستشارو الروح – وجميعهم يحملون اسم جيري- بإعداد الأرواح التي لم تولد بعد ولم يتم إرسالها للحياة، ويجد أن كل روح تحمل شارة دائرية فيها أقسام، ولكي تهبط إلى الأرض لابد من امتلاء أقسام هذه الشارة بالسمات المميزة لحياتها.

وهناك يلتقي الروح الساخرة (٢٢) التي عاشت في “الماضي العظيم”  لآلاف السنين، وترفض النزول للأرض لأنها لا ترى قيمة ولا فائدة لذلك، ويتعين على “جو جاردنر” أن يدربها، وأن يساعدها على إيجاد “شرارتها، أو شغفها” لاستكمال شارتها الأخيرة المتبقية، ولأنها لا ترغب، ولأن “جو” يريد الانتهاء منها ليعود إلى الأرض ويحقق حلم العزف، فإنه يجرب معها كل الإمكانات المتاحة، ومنها زيارة مكان اسمه”المنطقة” ليستعرضا كل أنواع الشغف، وزيارة المنطقة التي تهيم فيها الأرواح الضالة المهووسة والمنكسرة، ويلتقون القبطان “مونويند” وسفينته التي تحمل جماعة “المتصوفة بلا حدود”، ومهمتهم إنقاذ الأرواح المفقودة.

ويطلب “جو جاردنر” مساعدتهم، فيهيئون له فرصة الهبوط إلى الأرض لتحقيق حلمه بالعزف، لكنه بطريق الخطأ يأخذ معه الروح (٢٢)، فهتهبط هي في جسده، ويهبط هو في جسد قطة، وتبدأ رحلة جديدة من اكتشاف الحياة التي كان يعيشها “جو” لكنه لم يكن يشعر بها لأنه واقع في فخ الروتين اليومي، والسجن في حلمه الضيق فقط.

وتدور حوارات عميقة ومؤثرة بين “جو” في جسد القطة، والروح “٢٢” في جسد “جو”، وحوارات مع أمه، ومع الآخرين الذين كانوا يعرفونه ويعرفهم، لكنه يكتشف أنه لم يكن يعرفهم، ولا يعرف نفسه، ولا يدرك سر الحياة من حوله.

وتتوالى الأحداث بين الصعود إلى السماء والهبوط إلى الأرض، ويتكشف عالم الآخرة عن جمال يساعد في فهم جمال عالم الأرض، وتجد الروح “٢٢” شرارتها وشغفها على الأرض، ويعزف “جو” بعمق وصوفية، ويعود إلى السماء لاستكمال مصيره، غير أن السماء تقدر تجربته، وتعطف عليه، وتمنحه فرصة ثانية للحياة، فيعود إلى الأرض ليقدر كل لحظة وكل تفصيلة وكل شيء في حياته.

كلا الفيلمين يعتمد على روح الموسيقى بوصفها الشغف والإلهام واللغة التي لا تحتاج للترجمة أو التفسير، لأنها تخاطب المشترك الإنساني العام وهو الإحساس، ولا تتطلب شروطا للاستقبال، ولا تدعوك سوى للبحث عن المعنى بداخلك.

وكلا الفيلمين يناقش قضايا فلسفية عميقة يطول شرحها، لكن أهمها قضايا الحتمية، والمصير، وفرصة الحياة ذاتها، والتي نضيعها -غالبا- في الانصياع لما نتصور أنه مفروض علينا، أو أنه قدرنا، في حين أن المفاتيح جميعها بأيدينا، وكل ما علينا هو أن نفتح أعيننا جيدا، ونسمح لمشاعرنا وبصائرنا أن ترى متعة الحياة من حولنا، وأن نبحث عن شرارتنا أو شغفنا في الحياة، لنصل من خلالها إلى توسيع رؤيتنا، والاستمتاع ببهجة أننا هنا، وأننا نمتلك فرصة الحياة.

أضف تعليق