التحول ومرارة الفقد في ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، محمود الضبع

  الأندلس.. ذاكرة تمتزج فيها كل المتناقضات، كل ما هو جميل، وكل ما هو مؤلم.. كل ما هو واقعي، وكل ما هو متخيل.

  لم يكن سقوط الأندلس يعنى انتهاء تاريخ وحضارة فقط، وإنما كان يعني سقوط الإنسان العربي وتقهقر حياته إلى الوراء، وبخاصة مع أولئك الذين عايشوا سنوات التحول ولحظاته، هنالك حيث تمر بطيئة قاسية، وحيث تصبح الحياة مغامرة غير محسوبة، لا يمكن للمرء أن يتصور ماذا يمكن أن يؤول إليه الحال في اللحظة القادمة، فربما يموت، أو يسجن، أو يحرق، أو يجبر على الرحيل، وإن لم يكن ذلك مصيره هو، فقد يكون مصير أحد أفراد أسرته، أو أحد أقاربه، أو جيرانه، أو أبناء حيه.

  كل شيء في غرناطة يحكي تاريخ التحول.. الحارات التي ألفت ساكنيها، وأشجار الزيتون التي صنعت حياتهم، والبيوت القديمة التي زينها أهلوها بالخط العربي الجميل، والصناعات والحرف التي نشأت متأثرة بحضارة الشام ومصر والمغرب، واللغة التي ارتبطت بالقرآن والسنة، والثقافة التي تكونت عبر أجيال، والدين الذي آنسته القلوب، وأنماط الحياة، والبشر، والتاريخ.. كل شيء يتحول في اتجاه واحد لا يحيد عنه، فيتخذ مساره نحو التقهقر والتراجع والفقد والمرارة.

  من يرحل عن غرناطة طواعية لا يعود، ومن يلقى عليه القبض لا يعود، ومن يتنصر لا يعود، ومن يثبت سر احتفاظه بمخطوط أو كتاب عربي لا يعود، ومن يعبر عن أي مظهر يدل على عروبته يؤخذ فلا يعود، ومن يرفع صوته بالآذان، ومن يقرأ القرآن، ومن يتحدث باللغة التي نشأ عليها وعبر بها عن حبه ومشاعره وحاجاته.. كل من يفعل ذلك يرحل فلا يعود.

  تبدأ الرواية[1]برسم مشهد سريالي بين الواقعي والمتخيل يخاله أبو جعفر حلما، لكنه في حقيقته هو المشهد المفتاح والرمز والعلامة، الذي يلخص أحداث الرواية، ويحدد المسار الذي سيتخذه التاريخ منذ هذه اللحظة وحتى غياب غرناطة والأندلس تماما عن الوجود:

  ذلك اليوم رأى أبو جعفر امرأة عارية تنحدر في اتجاهه من أعلى الشارع كأنها تقصده، اقتربت المرأة أكثر فأيقن أنها لم تكن ماجنة ولا مخمورة، كانت صبية بالغة الحسن ميادة القد، ثدياها كأحقاق العاج، وشعرها الأسود مرسل يغطي كتفيها، وعيناها الواسعتان يزيدهما الحزن اتساعا في وجه شديد الشحوب.

  ولما كان الشارع مهجورا والحوانيت لم تزل مغلقة، وضوء النهار لم يبدد بنفسج السحر بعد فقد بدا لأبي جعفر أن ما شاهده رؤيا من رؤى الخيال، حدق وتحقق ثم غالب دهشته وقام إلى المرأة وخلع ملفه الصوفي وأحاط به جسدها وسألها عن اسمها ودارها فلم يبد أنها رأته أو سمعته. تركها تواصل طريقها وظل يتابع مشيتها الوئيدة وحركة خلخاليها الذهبيين حول كاحلين لوثتهما، وحول طريق تخوض فيه قدماها الحافيتان.

  ورغم البرد القارس وصفير رياح تعصف بأشجار الجوز المغروسة على جانبي الطريق، بقي أبو جعفر واقفا بباب حانوته حتى أرسلت الشمس خيوطا صفراء واهية حددت معالم الشارع. ص8.

  كان ذلك العري وهذا الفقد هو المهيمن على كل الأحداث فيما بعد، فالأندلس الفتية تتعرى شيئا فشيئا، وتولي بلا رجعة ساهمة ذاهلة حافية القدمين وئيدة، ومظاهر الحياة العربية بطقوسها من الميلاد وحتى الموت تتعرى وتولي بلا رجعة، والأمل في الثورة والحرب وانتظار المدد من بلاد الإسلام يولي أيضا بلا رجعة.. فماذا يتبقى من غرناطة والأندلس للبكاء عليه؟

  لم يتبق سوى بعض أولئك الذين يصارعون من أجل بقائهم أحياء ينتمون إلى العربية، وبعض المخطوطات والكتب التي تم إنقاذها من الحرق، وبعض الظلال الوارفة التي تبددها أشعة شمس القشتالية في فرض سطوتها بلا رحمة أو هوادة.

  هل يمكن العودة إلى الظلام بعد النور؟ وهل يمكن الكفر بعد الإيمان؟ وهل تنطوي هكذا صفحات التاريخ على أجيال تغلغلت جذورها ونمت فروعها فطاولت أعنان السماء؟

  أين الله، والمسلمون، والعرب؟ وأين معاني الإنسانية والأخلاقيات التي تنادي بها البشرية؟

  أسئلة تفجرها الرواية في مواضعها تماما عبر سرد سيرة ذلك التاريخ المؤلم الذي نعرف جميعا نهايته مستقبلا، ولكنا نتابع مسيرته عبر الرواية لعلنا نلتمس النجاة، كما لو كنا أفرادا مقهورين من بين أولئك الذين تحكي سيرتهم سقوط غرناطة ومن قبلها مالقة وبلنسية وقرطبة وإشبيلية والزهراء والزاهرة وكل الأندلس.

  يستقبل أهل غرناطة المسلمون الأوامر بالتنصر وعدم الخروج من المدينة، وتسليم الكتب، وتغيير الأسماء والألقاب، فسعد المالقي يتحول إلى كارلوس مانويل، وأم حسن تصبح ماريا بلانكا، وسليمة بنت جعفر تتحول إلى جلوريا ألفاريز، وعائشة بنت سعد تتحول إلى اسبيرانزا كارلوس، لكنهم يحتملون كما قالت لهم مريمة الفتاة زوجة حسن عندما فكروا في الرحيل هربا من التنصر:

  لا نرحل. الله أعلم بما في القلوب، والقلب لا يسكن إلا جسده، أعرف نفسي مريمة، وهذه ابنتي رقية، فهل يغير من الأمر كثيرا أن يحملني حكام البلد ورقة تشهد أن اسمي ماريا، وأن اسمها أنّا. لن أرحل لأن اللسان لا ينكر لغته ولا الوجه ملامحه. ص122.

  يمنع القشتاليون اللغة العربية من الاستخدام والتداول، فيعمد الناس إلى حيلة تعليم أبنائهم العربية في البيوت والتحدث بالقشتالية في الشوارع.

  يمنعون ختان الأولاد، فيختنوهم سرا، وتوهم مريمة معلم المدرسة أن كل أولاد العرب يولدون هكذا، وإن لم تصدقني فاكشف عن كل أولاد المدرسة.

  يمنعون الحمامات العامة التي كانت قطعا من الجمال بما لها من طقوس عربية، فيكتفوا بتنظيف أنفسهم في منازلهم.

يمنعون غسل الموتى وتكفينهم وقراءة القرآن عليهم، فيفعلوا ذلك سرا، ثم يلبسون المتوفى ثيابه على الطريقة القشتالية، ويستدعون القس فيضع صليبه ويقرأ عليه من إنجليه، وبعد أن يرحل يستكملون طقوس الدفن على دينهم هم.

  يمنعون الإرث والتزويج على طريقة الإسلام، فيفعلوا ذلك سرا، ثم يذهبوا إلى الكنيسة ليقوم القس بطقوسه على غير دينهم.

  يمنع الصوم والصلاة والاحتفال بالعيدين، فيفعلوا ذلك سرا، ويلقنوا السر لأبنائهم، ويتحمل الصغار فيكبروا ليسلموا السر إلى من يليهم، وتتعاقب الأجيال، ولكن إلى متى؟ وهل تحتمل الفروع ما يمكن أن تتحمله الأصول؟

  سنوات من المحو تطول.. تتزامن معها وتواجهها لحظة بلحظة وسنة بسنة محاولات من الصمود والحفاظ على الهوية باستلهام مبدأ التقية كما أقره الإسلام، وأفتت به رسالة وصلتهم سرا من أحد أشياخ المغرب العربي، فيحتملون ويواصلون.

  يموت الأجداد (رمز العراقة) الذين عايشوا العربية والإسلام فيحتمل الباقون ويواصلوا، وتموت سليمة (رمز العلم ) بتهمة ممارسة السحر فيحتملوا ويواصلوا، ويموت سعد (رمز الثورة ) كمدا على سليمة فيحتملوا ويواصلوا، ويلقى القبض على إخوة مريمة (رمز الفن) لإصرارهم على تطبيق شرع الله في دفن أبيهم، فيحتملوا ويواصلوا، ويتنصر الشيوخ والأئمة والآباء والأمهات وتتغير أسماؤهم وألقابهم (دلالة التمييز بين الأعراق ) فيحتملوا ويواصلوا.

  تاريخ طويل تمتد مساحته الزمنية غير أن السرد يكثفه ويختزله في مشاهد إنسانية عبر أسرة “أبو جعفر” في أبنائها وأحفادها حتى الحفيد الأخير “علي”، وكل من اتصل بهم أو جاورهم، فتؤرخ مسيرتهم سقوط غرناطة ومالقة وبلنسية، وسقوط الأندلس، وسقوط الإسلام، وزوال شمس العروبة وحضارتها إلى الأبد.. فهل كان مشهد البداية حاضرا في كل هذا التاريخ ومعبرا عنه؟

  تحكي الرواية سيرة العرب الأندلسيين “الموريسكيين” في أيامهم الأخيرة عبر ثلاثة أجزاء، هي: غرناطة، ومريمة، والرحيل، تغطي قرنا وست عشرة عاما من الزمان، بدءا من اجتماع الحمراء وتوقيع آخر ملوك الأندلس المسلمين “أبو عبدالله محمد الصغير” على اتفاقية تسليم البلاد عام 1492م، واختفاء المناضل “أبو موسى الغسان”، وما ترتب على المعاهدة من تسليم غرناطة في مدة أقصاها ستون يوما، وحتى طرد آخر سلالات العرب من إسبانيا عام 1608م.

  في الجزء الأول “غرناطة” تبدو الحياة هادئة لا يكدر صفوها إلا أخبار سقوط الممالك المجاورة مثل مالقة وبلنسية، وهروب بعض الصغار إلى غرناطة (مثل سعد المالقي)، فيستقبلهم أبو جعفر، الذي يعمل خطاطا ويمتلك حانوتا في حي الوراقين، ويسكن حي البيازين مع زوجته وأحفاده حسن وسليمة، الذين مات أبوهما شابا. ويعمل معه سعد المالقي الفتى الهارب من مالقة بعد تشريد أهلها، ونعيم الذي تتوطد بينه وبين سعد العلاقة، وتتوارد الأخبار عن الاتفاقية وتسري بنودها بين الناس في الحوانيت والحارات والبيوت والمساجد، ويحملها النهر إلى الجهات الأخرى، ويبدأ الاستعداد للتسليم فيرحل من يرحل ويبقى من يبقى، ويبدأ مد القشتالية على غرناطة، وتجمع الكتب لتحرق، ويموت أبو جعفر حزنا وشكا في الغوث.

  ويكبر حسن، وتكبر سليمة وتتزوج من سعد المالقي، وتواصل سليمة مهنة الجد سرا، وتجمع الكتب والمخطوطات، وتشتغل بطب الأعشاب، ويزداد الضغط القشتالي، ويصل الحصار إلى داخل المنازل، وتتحول الحياة تماما لتأفل شمس وتشرق شمس، والناس ذاهلون، وينتهي الجزء الأول بحرق “سليمة ” رمز العلم، غير أنها تترك للحياة أملا في طفلة صغيرة تسميها عائشة، لعل الأمل ينمو فيعيد بعضا من الأمجاد.

  ويحكي الجزء الثاني تاريخ “مريمة” زوجة حسن، وأم البنات اللائي تزوجن ورحلن إلى ممالك أخرى، وأم هشام الذي يتزوج عائشة وينجب عليا، ويعمل قاطعا للطريق على القشتاليين، ويختفي، وتموت عائشة، ويبقى “علي” في حوزة جدته مريمه وجده حسن الذي يعلمه العربية فيكون آخر قارئ لها في الأندلس، ويموت الجد، وتكمل مريمة المسيرة لترصد تاريخ التحول في غرناطة والمدن المحيطة، ويصدر قرار النفي لكل عربي:

   “تطلع علي إلى جدته، كانت واهنة نحيلة العود، خف شعرها الفضي، ودقت جديلتاها، خيطان يؤطران وجههاالمتغضن وعينيها الشاردتين.

  • سنذهب يا جدتي.
  • إلى أين يا علي؟
  • يعلم الله يا جدتي. يقولون إلى قرطبة.
  • أبي رحمه الله كان يحلم برؤية قرطبة.
  • إذا نذهب يا جدتي لعلنا نراها.
  • لن أترك البيازين.

  لم يكن هناك بد من الرحيل، وقد صدر قرار النفي الأخير وأذيع مرسومه، وتعين على الأهالي كافة أن يتجمعوا في ساحات الكنائس الأقرب إلى مساكنهم “ 342.

  وترحل “مريمة” يحملها “علي” بين يديه كطفلة، وتموت في الطريق، ويهرب “علي” عائدا إلى غرناطة ويحتال على البقاء فيها حتى يجبره صديقه القديم خوسيه على الرحيل مرة أخرى، بعد أن يستولي على الدارين الذين بناهما أجداده العرب وورثهما عنهم.

  ويحكي الجزء الثالث “الرحيل” قصة رحيل “علي” إلى بلنسية بحثا عن عماته، ويقوده البحث إلى قرية تتبعها اسمها “الجعفرية” فيلتقي شيخها عمر الشاطبي، ويخبره أن عماته رحلن منذ عامين إلى المغرب العربي، ويعرض عليه البقاء فيبقى مكملا رصد مشاهد التحول وتضييق الخناق، والأمل في المدد وطلب المعونة بالاتصال بالأمراء الثوار، وعقد الاتفاقيات مع ملوك فرنسا، وأمراء العرب، غير أن كل المحاولات تؤول إلى الفشل، وتنتهي إلى الترحيل النهائي لكل العرب، لكن عليا بعد أن يصل إلى الميناء مع كل الذين يتم ترحيلهم، يستطلع مشهد البحر والأطفال والنساء والعجائز والراحلين جميعا، فيقرر العودة:

  “قام علي، أدار ظهره للبحر، وأسرع الخطو ثم هرول ثم ركض مبتعدا عن الشاطئ والصخب والزحام. التفت وراءه فأيقن أن أحدا لم يتبعه، فعاد يمشي بثبات وهدوء، يتوغل في الأرض، يتوغل في الأرض، يتمتم: لا وحشة في قبر مريمة” ص502.

  البناء السردي وتقنيات الكتابة:

  على الرغم من بساطة البناء السرد في الثلاثية نتيجة لتلبس الراوية في شخصياتها، إلا أنها تعمل على الدوام إلى تعديد الأصوات السردية، فتبدأ الرواية بالحكي عن، على طريقة الراوي العالم بكل شيء، غير أنها تتجاوز مجرد اتباع تقنيات هذه الطريقة على نحو ما أقرته الكلاسيكيات الأدبية، فتعمد إلى إحداث خلخلة في البناء السردي على المستوى الإجمالي للرواية، وذلك بإضفاء بعض التقنيات التي قد يبدو بعضها مستعارا من الأنواع الأدبية الأخرى، ومنها:

  • بنية السؤال، التي تستدعي تدخل التلقي في بناء النص، وفتح أفق تأويلاته، وهي بنية شعرية في المقام الأول، غير أنها تتحول هنا إلى وحدة في نسيج البناء السردي، ومنه ما يرد في بداية الفصل الرابع من الجزء الأول “غرناطة “، عندما بدأ الجنود القشتاليون في التوافد على المدينة، وبدأت أيام مهلة التسليم في التناقص:

  “لو قدر لأهل غرناطة قراءة الغيب، هل كانت تبدو السنوات القليلة التي أعقبت ضياع بلادهم قاعا لا قاع بعده للمهانة والانكسار؟” ص26.

  فمثل هذا السؤال يستدعي ما هو واقعي تاريخي، ويستدعي ما هو متخيل سردي، ويدفع المتلقي بشكل أو بآخر إلى الدخول في صياغة النص، واحتمالات بنائه على الرغم من استناده إلى واقع تاريخي يحكم حركة سير العمل كلية، وهو ما يتكرر كثيرا في أساليب سرد الرواية، من تكرار سؤال ” فماذا حدث بعد ذلك؟”، أو ” ما الذي حدث في ذلك اليوم حتى لا يحتمله سعد ما احتمله من قبل ” ص125، وهنا في هذه المواضع لا تتدخل الراوية بتقديم الإجابة الواحدة بوصفها الساردة العارفة بكل شيء، وإنما تعمد إلى صيغة تعدد الأصوات، فتعرض لاحتمالات الآخرين وتصوراتهم عما يمكن أن يكون قد حدث، وهو ما يعطي النص حركية ومتسعا من أفق التأويل.

  • الكناية والمجاز، لا على مستوى التركيب الإفرادي للكلمة أو الجملة، وإنما على مستوى البناء النصي للفقرة والمقطع، وذلك عن طريق إخفاء هوية المروي عنه سواء أكان شخصا أم مكانا أم حدثا من أحداث الرواية، ويبدو الأمر حينها كما لو كان لغزا يستدعي المتلقي التفكير فيه وليس مجرد الاستمتاع بحدث يروى له، ويستدعي أيضا جملة من المتشابهات النصية التي حدثت في تاريخ الوطن العربي بشخصياتها وأماكنها وأحداثها، ومنه ما يرد في بداية الفصل الخامس من الجزء الأول، إذ يبدأ الفصل بالحكي عن وصول رجل في عام 1499م إلى غرناطة، ويستطرد في وصف مشهد الحياة، متأرجحا بين المتناقضات، مدغدغا لمشاعر الشجن، ويستدعي بنية السؤال المتعدد متسائلا عن الرجل وهويته وأهدافه، قبل أن يصرح بأنه أسقف طليطلة… ص44، ومنه ما يأتي في بداية حضور ” مريمة ” إلى عالم الرواية وكيف رآها حسن ص 90، ومنه ما يبدأ به الجزء الثاني ” مريمة ” من حكي عن شيء تراه، يوهم السرد بأنه رؤيا، أو كائن ما، أو شيء مبهم، وذلك قبل أن تفصح عن كنهه، ومنه مشهد دخول الرجل الأعرج إلى بيت حسن ومريمة وتعجب علي لذلك، قبل أن يتضح الأمر بأنه هشام أبوه الذي يعمل قاطعا للطريق ص 280. وهي التقنية التي تتكرر على نحو متتابع في الثلاثية.
  • الاختزال والتكثيف، سواء على مستوى البناء اللغوي، أم على مستوى بنية الأحداث واختزال الكثير منها ربما بكلمة واحدة تختصر مساحات زمنية ووحدات سردية عديدة، ومنه ما حدث مع أبي جعفر عندما عاد من مشاهدة احتفال القشتاليين بحرق الكتب والمخطوطات العربية الغرناطية، وكلنا يتذكر بالطبع المقولة التاريخية التي تقول: ” إذا مات عالم في قرطبة بيعت كتبه في غرناطة، وإذا مات موسيقي في غرناطة بيعت آلاته في قرطبة “، يصف المشهد تاريخا بأكمله وأحداثا عدة عبر مقطع واحد يقول:

  “عندما أعطى ظهره لحدرة ليصعد التلة بدت له الطريق الجبلية الصاعدة صعبة لا يقدر عليها. كانت ساقاه واهنتين بالكاد تحملانه وكأنه يحمل جذع شجرة ثقيلة لا طاقة لإنسان على حملها. يصعد ثم يتوقف ثم يعود يصعد. تعثرت قدماه وسقط على وجهه، تفصد من أنفه خيط دم رفيع وانجرحت ركبته. لم يلحظ ذلك. قام وواصل الصعود حتى وصل إلى ساحة مسجد البيازين الذي صار كنيسة سان سلفادور، وقعد على مصطبة حجرية وظل جالسا بلا حراك حتى غروب الشمس.

  قبل أن يأوي أبو جعفر إلى فراشه، في تلك الليلة، قال لزوجته” سأموت عاريا ووحيدا لأن الله ليس له وجود!” ومات ” ص52.

  إن اختزال حدث تحول المساجد إلى كنائس لم تسبق الرواية إلى ذكره، غير أن تكثيفه هنا في هذه الإشارة المقتضبة تختصر كثيرا مما كان يمكن أن يقال، وبخاصة أن التاريخ أسهب في سرد ذلك، كذلك الأمر في مقولة أبي جعفر، ثم اختصار ما حدث له بعد ذلك في كلمة واحدة “ومات” يحيل أيضا إلى تقنية الاختزال والتكثيف.

  • المشهدية السردية، حيث تعتمد الرواية إجمالا المشاهد السردية المتجاورة، التي يختص كل مشهد منها بالحكي عن شخصية، أو حكاية، أو حدث ما، وإن كانت تتضافر جميعا وتتجاور في سرد سيرة عامة لغرناطة عبر تحولاتها ومراراتها التي لم تنقطع على مدى المائة عام ويزيد من خلال مقاطع ثلاث هي ” غرناطة” و “مريمة” و “الرحيل”، وانقسام كل مقطع منها إلى فصول متوسطة الحجم إلى قصيرة، وهو ما يضفي على البناء السردي إجمالا بساطة في التلقي تنتج عن هذه التكثيف والاختزال والتنوع، وما يحدثه ذلك من جماليات.

  لم تكن ثلاثية غرناطة على هذا النحو رواية ترصد لتاريخ سقوط غرناطة والأندلس فقط، ولكنها ذاكرة تعيد إلى الذاكرة العربية ماضيها، وتلتبس مع حاضرها، وتعلن عن واقعها، وتدفع المخيلة إلى التفكير في ذلك جميعه، واستشراف أفق المستقبل في ظل تحولات تتنوع رغم إيغال التاريخ في القدم. 

 

 


[1] رضوى عاشور: ثلاثية غرناطة – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الخامسة – 2005م.

أضف تعليق