ليس غريبا أن يكون كاتب الرواية منتميا إلى مجال القانون ودراساته، فمطالعة دوريات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، مثل: المقتطف والسفوروالرسالة والبيان ..إلخ، تكشف عن فصاحة وثقافة وعمق خريجي الحقوق آنذاك، ومنهم توفيق الحكيم على سبيل المثال في أعماله المسرحية والروائية وكتاباته الفلسفية.
رواية ملك التنشين، تشي بأنها سيرة روائية أو رواية سيرة لما تتضمنه من تشابهات بين الشخصية الرئيسة “غريب” وبين المؤلف فيما يتعلق بدراسة القانون الدولي، والعمل في الحقل السياسي، وغيرها من إشارات قد تجعل بعض المتلقين يحيلونها إلى كتابة السيرة، وبخاصة أن مؤلفها يستخدم ضمير المتكلم الفرد في سرد الرواية.
إلا أنه ليس مهما في الرواية البحث عن المطابقة بين الواقعي والمتخيل بقدر ما يهم رصد الحكاية التي يمكنها أن تعبر عن مسيرة الفكر العربي في إمكانية استجابته للتطور الفكري والعلمي والمراجعات المستمرة لموروثه.
السؤال الأول الذي تثيره الرواية في ذهن المتلقي يتعلق بالعلاقة بين الرواية والتاريخ، وإلى أي مدى يمكن أن تكون الوقائع التاريخية الواردة في الرواية (المتعلقة بحقبة سياسية قريبة) متطابقة مع التاريخ؟
لقد رسخ في ذهن المعنيين أن التاريخ واقعي والرواية متخيلة، ومن ثم فإنه مسموح في الرواية أن تخالف مسارات التاريخ وقد تعيد تسجيله، لأنها في نهاية الأمر لا تعد وثيقة دالة يمكن اعتمادها كمرجعية موثوق فيها..
غير أن توجد مغالطة في ذلك، فتاريخنا العربي متخيل سردي أيضا، والتاريخ في نهاية الأمر كتبه أشخاص كانت لهم وجهات نظر، أو كانوا يراعون وجهات النظر السائدة في المرحلة التي تم تسجيل التاريخ فيها ، ولذلك فإن التاريخ الوارد في أي رواية هو وجهة نظر يمكن أن تساعد على فهم الصورة الكاملة عند ضمها إلى وجهات نظر أخرى ترصد لذات الحدث أو لذات الفترة، وهذا ما يمكن اعتماده هنا في رواية “ملك التنشين” وإشاراتها إلى أحداث سياسية تتعلق بسبعينات وثمانينات القرن الماضي.
توهم الرواية إذا متلقيها بأنها سيرة ذاتية تسرد مرحلة تاريخية لمصر، إلا أن الحقيقة أنها اعتمدت السيرة بوصفها تقنية أو شكلا من أشكال كتابة الرواية، لتكشف من خلاله عن واقع المجتمع المصري في مرحلة حكم السادات وبدايات حكم مبارك، في جوانب عدة، منها:
– المقارنة بين أوضاع الريف وأوضاع المدينة على مستوى التعليم والتحضر والتمايز الطبقي لشرائح المجتمع.
– المقارنة بين المجتمع المصري ومجتمعات الغرب، وبخاصة فرنسا على مستوى وعي الشعوب والأفراد وثقافتهم تجاه بلادهم ، ونظم التعليم ، والتعامل مع القوى الناعمة وعلى رأسها الثقافة والتعليم والسياحة… إلخ.
– الكشف عن بعض مظاهر فساد الأفراد السياسي من المسؤولين وبخاصة من لهم علاقة بالتعامل مع كبار رجال الأعمال.
تحكي الرواية قصة الشاب “غريب” في انتقاله من قريته القريبة من مدينة دسوق بكفر الشيخ، إلى مدينة الإسكندرية ملتحقا بالجامعة بعد حصوله على الشهادة الثانوية، وفي كلية الحقوق سرعان ما يكشف عن مهاراته في التنشين والتوقع لأسئلة الامتحانات، مما يجعل طلاب الجامعة المرفهين يلتفون حوله ويعوضونه عن فقره وريفيته باصحابه إلى منازلهم الفخمة، وهنا تحدث النقلة الأولى في حياته عندما يقبل هدايا الأمهات بالملابس والاحتياجات الضرورية ، ثم تأتى النقلة الثانية في الدخول إلى عالم البارات والسهرات وإقامة العلاقات النسائية مع المحافظة على نجاحه وتفوقه الدائم، وهو ما أهله بمساعدة أستاذه رجل السياسة المشهور في أن يحصل على بعثة في باريس عاصمة الفن والثقافة لدراسة القانون الدولي.
وفي باريس تبدأ رحلة جديدة يستمر فيها في حياته الموازية، ويضيف إليها علاقات مع المستشار الثقافي وما يتصل بها من أمور سياسية تتعلق بالطلاب الثوريين وعالم اليسار إجمالا، وهو في كل ذلك يكشف عن انحيازه لممالأة السلطة الحاكمة، ولا يمنعه ذلك من التفوق والحصول على درجة الدكتوراه في عامين، والعودة إلى مصر ليلتحق بوعد أستاذه الذي تولى وزارة التجارة الخارجية، ويكون “غريب” مساعدا له ومسؤولا عن ملفات التصدير والاستيراد وعضوية مجالس إدارة العديد من الشركات، بل تولي رئاسة إحدى الشركات المهمة.
ولأنه من البداية يعاني الارتباك في بنية الشخصية مما جعله شخصية مأزومة تماما، ولأنه كان يفتقر إلى الثقافة كما واجهه الكثيرون من شخصيات الرواية، فقد عمد إلى تقبل الرشاوى وغرق في الكثير من مظاهر الفساد، مما آل به في النهاية إلى تتبع الرقابة الإدارية له والقبض عليه وإيداعه السجن، وهنا يكتب سيرته (التي هي متن الرواية) ويسلمها لصديق له على شرط ألا تنشر قبل مرور ثلاثين عاما، يكون فيها شخصيات السيرة (الرواية) قد رحلوا عن أماكنهم.
وعلى الرغم من حبكة الرواية ودقة بنائها وثراء أحداثها وقدرتها على الإمتاع والتشويق ، إلا أن الجزء المتعلق بالطفولة والقرية فيها كان يحتاج للمزيد من رسم ملامح الحياة في هذه الفترة التاريخية، فقد اكتفت الرواية برصد علاقة “غريب” بأسرته وأصدقائه، ولم تقف كثيرا أمام رصد فقر المجتمع الريفي وبيان ممارساته التي تكشف عن انخفاض معدلات التنمية نتيجة إهمال الدولة له وتدني مستوى الخدمات التعليمية والصحية وغياب أدوار التوعية فيه.
كما أن شخصية “عباس” شخصية محورية لا تقل أهمية عن شخصية غريب، وهي تمثل شريحة غير قليلة من المجتمع المصري، ويمكن الاعتماد عليها في أعمال أخرى لرصد تناقضاتها بين التدين الشكلي الذي يوهم بالتزامه الديني، وبين استيلائه على حقوق الغير، وسعيه للتقرب من السلطة بأشكال عدة ، وكان يمكن في هذه الرواية الاعتناء بها وكتابة المزيد عنها .