الثقافة العربية والتنوع، لماذا لا نتعلم الدرس؟، محمود الضبع

يعد التنوع مكونًا أساسيًا من مكونات الثقافة -أية ثقافة-، التنوع في الأصول والروافد، وفي الفكر  والصياغة، وفي النتاج والتواصل، والتنوع الذي يصل إلى حد التعددية داخل الحقل المعرفي الواحد، والتعددية في تجلياته ومظاهره على مستوى الاقتصاد، والبيئة، والإقليم الجغرافي، والتنظيم الاجتماعي، ومن ثم التقدم والتخلف الناتجين عن الأصول المعرفية، وكيفية التعامل معها وإمكانات تطويرها والإضافة إليها من عدمه.

هذا الاهتمام بالتنوع أكدت عليه كل الوثائق الرسمية التي لا تنتمي إلى دولة ما أو توجه سياسي بعينه وإنما تخلص لمفاهيم العلم ومقتضياته، ومنها تقارير التنمية البشرية الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وإعلان مكسيكو بشأن الثقافة، وغيرها مما أشار بصراحة في بنوده على تأكيد هذه التعددية الثقافية، وأنها “تشكل جوهر الذاتية الثقافية حيثما تتعايش تراثات مختلفة”، وأن “إهمال ثقافة أى مجموعة أو تدميرها ينطوي على خسارة وإفقار للبشرية جمعاء”.

هذه المبادئ وغيرها تقتضي ضرورة احترام وقبول ثقافات الآخرين، وهو ما يفترض توفر مبدأ التسامح الذي يؤدي في آخر الأمر إلى السلام بين الشعوب المختلفة، وبين الجماعات المتباينة ثقافيًّا داخل المجتمع الواحد. وهذا ما يمكن قراءته ومساءلته تاريخيًّا في إطار الثقافة السائدة في العالم العربي بمختلف شعوبه. 

فإذا كانت الثقافة العربية ترتكز في وحدتها على المعتقد واللغة والتراث وبنية العقل على نحو ما، فإن هذه الوحدة العامة، تنطوي على قدر كبير من التنوع اللغوي والعرقي بل والديني (كعقيدة)، وهو تنوع مرتبط بتمايز الجماعات الفرعية داخل الوحدة الكلية. 

والتنوع على هذا النحو لا يعد عيبًا، ذلك لأنه سمة عامة في كل الثقافات العربية وغير العربية، فمن يسهمون في صياغة الثقافة دومًا لا ينتمون إلى أصول معرفية واحدة، ولا إلى بيئات تعليمية تعلمية واحدة، ولا يتساوون من ثم في آليات اشتغال العقل والفكر على نمط واحد.

ولكن الأهم في التعددية والتنوع ليس هو التسليم بواقعها، وإنما كيفية التعامل معها من خلال مشروع / مشروعات ثقافية محددة الأهداف والأطر، تستطيع تفهم الواقع الثقافي في ارتباطه بالواقع الاجتماعي والسياسي من جهة، والسعي نحو صياغة تقدمية لتطوير الوضع الحالي من جهة أخرى، وتلك هي الأزمة الحقيقية للثقافة العربية في تاريخها ومستقبلها، إذ يظل العمل الفردي وغياب المؤسسة والعمل المؤسساتي على أقل تقدير هو السمة الغالبة المهيمنة، ومن ثم فإن أي مشروع ثقافي لا ينطلق من هذا الوعي فهو مهدد بالفشل قبل أن يقوم، فواقع الحياة المعاصرة يقتضي البحث في آليات ما قبل الثقافة قبل الانسياق في تطويرها. 

إن الأمر على هذه الشاكلة يقتضي رصدًا لبعض النقاط الجوهرية التي تمثل بعدًا لايمكن تجاهله مثل: إعادة النظر في رؤية الثقافة العربية للثقافات الأخرى، والبحث في رؤية الثقافات الأخرى للثقافة العربية، والتاريخ الإسلامي يزخر بعشرات المواقف التي تكشف عن موقف الثقافة الإسلامية من الثقافات الأخرى فيما يتعلق بالعقائد والممارسات الحياتية والتقاليد والمحافظة على الحقوق المدنية لغير المسلمين إن فضلوا عدم الدخول في الإسلام، وقد أتى ذلك جميعه بثماره في أزهى عصور الإسلام إنتاجًا ثقافيًّا في العصر العباسي، والأندلسي، والمصري الإسلامي، حيث تمت صياغة الثقافة العربية في هذه العصور، مع ملاحظة دخول غير العرب وغير المسلمين إلى ميدان صناعة هذه الثقافة (ابن المقفع وكليلة ودمنة، وموسى بن ميمون، وابن منظور المصري ولسان العرب، والنحو وغيره مئات الأمثلة والكتب والمؤلفات التي لاتزال تمثل المراجع الأصول حتى الآن). إلا أن المظلة الكبرى التى كان يستظل بها الجميع كانت هي الإسلام والعربية في آن، مع آفاق أرحب للتلقي والاشتغال، ومن ثم لايمكن قياس ذلك على الواقع المعيش الآن للتحولات التي طرأت على الواقع الثقافي العالمي، ومن ثم غيبة مفاهيم، وإحلال مفاهيم، واشتغال سياسات دولية تسعى لمحو هويات وإقرار هويات على الرغم من انطلاقها من مسلمات التنوع والتعدد الثقافيين.

ومن جهة أخرى فإن النظر فيما صاغته وتعمل على صياغته الثقافات الأخرى نحو العربية، أمر لايمكن تجاهله، ولايمكن في آن تصنيفه تصنيفًا حكميًّا سريعًا وسيأتي بالسلب غالبًا، فالرؤية القاصرة أو المتحيزة من قبل الآخر (كل من هو غير عربي) قد لا يكون منشؤها محاولة التقليل بقدر ما يكون عدم سلامة ما تم ترجمته من ثقافة عربية إلى هذه الثقافات، وحتى إن كان الأمر يتعلق بقراءته المباشرة في اللغة العربية ذاتها فالأمر لا يسلم من قصور المادة المكتوبة، وعدم اكتراثها بتوجيه خطاب مباشر أو غير مباشر إلى الثقافات الأخرى للعمل على رصد ملامح الثقافة العربية بما يسمح باستيعابها أو تقبلها على نحو إيجابي .. فالتاريخ الثقافي العريض للفكر الفارسي لو لم تكن هناك عقول مشتغلة بوعي على ترجمته إلى العربية لما كان له ذلك الأثر في تاريخ الثقافة العربية، وقياسًا عليه اليوناني والهندي القديم، وغيرهما، فالأمر مرهون دائمًا ليس بترجمة أو وضع مؤلف، بقدر ما هو ترجمة أو وضع مشروع فكري ثقافي يسمح دومًا بوضع الآخر في مساحته النصية من منظور التأثير الإيجابي الفاعل .

من هنا فإن التعددية في ذاتها قد لا تؤدي لتعريف ثقافة، وإنما لابد لها من أنساق عامة تنتظم تحتها هذه التعددية، وعليه فإن أية محاولة لتعريف الثقافة في العصر الحالي لا يمكن لها أن تتقدم مالم تضع في وعيها هذه التحولات، ففي عام 1998 م أعلنت هيئة الأمم المتحدة أن عام 2001 م سيكون “عام الحوار بين الثقافـات” وجاء هذا الإعلان في بعض أبعاده على الأقل كنوع من رد الفعل المباشر على ما ذهب إليه الأمريكي صامويل هنتنجتون في كتابه “صدام الحضارات” من أن بعض الحضارات اللاغربية ومنها الحضارة الإسلامية تمثل تهديدًا خطيرًا للحضارة الغربية الحديثة ومقوماتها الليبرالية التي تفتقر إليها الثقافات الأخرى.

وبعيدًا عن محاولات الرد التي حتمًا ستكون موجهة لنا نحن العرب ولن يتعدى تأثيرها هذا المحيط، فإن السؤال الأهم هو: ما الذي يسوغ لظهور مثل هذه الأحكام الباطلة والمستعدية من وجهة نظرنا؟ ألا ينطوي الأمر على أبعاد تحتاج إلى تحليل لا بهدف بيان أباطيل ما يقال، وإنما بهدف الكشف عن الأطر العامة للثقافة العربية التي غدا أبناؤها أنفسهم يجهلون ملامحها الفارقة، والأخطر، يفقدون الثقة في قدرتها على احتمال التطور، أو بناء مستقبل على نحو ما.

إن ما أعلن في الغرب حول الثقافة العربية، كان له أكبر الأثر في تعبئة المشاعر ضد المسلمين والعرب حتى داخل أمريكا ذاتها، ومن ثم جاءت الريح مواتية بعد أحداث 11 سبتمبر2001 م، وغيرها من الأحداث التي تعاقبت في أمريكا وأوروبا، وبريطانيا، وأفغانستان، وإيران، والدول العربية ذاتها، والتي يتم إلصاقها بالمسلمين حتى قبل أن تعلن جهة مسؤوليتها عن الحوادث، وهو أمر يحتاج إلى تفكير عميق، وجهود ربما لا يمكن لمفكر أو باحث بمفرده أن يتبنى مسؤوليته عن القيام بها.

والأمر الثاني الأكثر خطورة هو تعالي نبرة الدعوة إلى حوار الثقافات، والتقريب بين الثقافات المختلفة على أساس من الفهم والتقدير الصادرين عن الاعتراف بمبدأ النسبية الثقافية، الذي يقضي باحترام الهويات الثقافية لمختلف الشعوب، وهو أمر لا يسلم هو الآخر من اشتماله على أبعاد خفية تسعى لفرض هيمنات ثقافية على حساب أخرى، فهل في المرحلة الراهنة فعلاً يمكن القول بأن الثقافة العربية قادرة على الدخول في معترك حوار ثقافات؟ ونعني في سياق التحولات التي طرأت على أساليب ولغة الثقافة (مثلاً التكنولوجيا والكتب الرقمية، ولغات البرمجة الخطية ولغة الصورة وغيرها كثير مما تتعامل معه العربية بوصفها مستهلكًا لا منتجًا).

إن الأمر يقتضى معاودة النظر في أنفسنا وفي تقديرنا لذاتنا نحن العرب، وفي رصد ملامح وأبعاد هويتنا الثقافية وما يصلح منها للتداول الآن، وهو ما سيقتضي بالضرورة الاعتراف بالتنوع والاعتماد عليه لصالح بناء ما يمكن أن يسمح لمنتجنا الثقافي الآن من الحضور والتواجد على مساحة الخريطة المعرفية للعالم، ونحن نمتلك هذا المنتج الثقافي، فقط نحتاج لتوسيع رؤيتنا للثقافة تبعا لما هو حادث الآن، توسيع الرؤية لتشمل كل منتج فكري أو يدوي أو فني يمكن توصيفه فكريا، وبيان طرق إنتاجه، وما أكثر ما نمتلكه حين اعتماد هذا المعيار من حرف وصناعات تقليدية وفنون وآداب وغيرها مما نمتلكه ولا نتملك أساليب توظيفه في إطار ما يهيمن على العالم مما يطلق عليه “مجتمع المعرفة “.

فكرة واحدة بشأن "الثقافة العربية والتنوع، لماذا لا نتعلم الدرس؟، محمود الضبع"

أضف تعليق