الفقر الثقافي.. ندوة أم مؤتمر؟، محمود الضبع

صحيفة الأهرام، مصر، ٢٤ يوليو ٢٠٢٠:

dabh 2
د. محمود الضبع

هل هو تضييق للمفهوم؟ أم قلة حيلة؟ أم الإخلاص لثقافة الاختزال التي سقط فيها الوعي العربي منذ قرون؟ أم غياب للفكر الاستراتيجي في عقول القائمين عليه؟

هكذا يمكن وصف النشاط الثقافي في مؤسساتنا العربية (الأكاديمية والثقافية.. إلخ)، فالمتتبع لإجمالي أنشطتها سيستطيع الملاحظة بسهولة، أنها لم تعد تتعدى مجرد إقامة ندوة يشارك فيها عدد محدود من الحضور قد لا يزيد على عدد المتحدثين قليلا، أو عقد مؤتمر لا تتجاوز مدة عرض الورقة البحثية فيه 20 دقيقة، ثم تدور بعض السجالات التي تعتمد في الغالب الأعم على محاولة الانتصار للرأي في مقابل الرأي الآخر، ثم ينتهي الأمر – غالبا- بتعطل طباعة هذه الأوراق البحثية أو نشرها عبر الفضاء الإلكتروني، وشيئا فشيئا تغيب عن الذاكرة.

يُطلب من الأقسام العلمية في الجامعات أن تقوم بنشاط ثقافي، فتقترح ندوة أو مؤتمرا.. تحاول المؤسسات الثقافية إثبات فعاليتها في القيام بدور ثقافي، فتقيم ندوة أو تعقد مؤتمرا.. تحاول مؤسسات غير ثقافية أن تعبر عن دعمها للمجتمعات وانفتاحها على أبعاد التنمية فلا تجد سوى إقامة ندوة أو مؤتمر.. يبحث المسؤولون من القيادات العليا عن حل لمشكلات المجتمعات العربية العديدة (التطرف والإرهاب والجهل … إلخ)، فلا ينصرف تفكيرهم سوى للندوة أو المؤتمر.

فمتى بدأ هذا الاختزال لمفهوم الثقافة وتضييقه إلى هذا الحد الذي فرغه من مضمونه؟ وهل نحن بالفعل لا ندرك أهمية الدور الثقافي في حل مشكلات مجتمعاتنا العربية التي حل بها الخراب في كثير من ملامحها بسبب غياب أو تغييب الوعي على النحو الحادث؟

وما الذي يميز التعليم في البلدان المتقدمة – مثلا- سوى أن نظامها التعليمي يتكامل مع السياسات الثقافية، بما يجعل نواتج التعلم (الخريجين) يمتلكون تعليما لا يمكن فصله عن الإنتاج الثقافي السائد في تطوره العالمي؟

وهل يمكن الإنكار أن الرواج الثقافي في عصور سابقة هو الذي حمى البلدان العربية وحررها من الاستعمار مثلا، ومن الحركات الرجعية التي كانت تعرقل مسيرتها؟

وأين موقع السياسات الثقافية من مؤسساتنا العربية القائمة على شؤون الثقافة؟ ألا تستطيع على أدنى تقدير بلورة استراتيجية ثقافية تستطيع من خلالها الاستثمار في الإنتاج الثقافي والقوى الناعمة لصالح حل مشكلاتنا؟ ناهيك بالطبع عن المكاسب المادية المباشرة وغير المباشرة التي ستتحقق من وراء ذلك، والتي بلورتها اقتصاديات المعرفة المتداولة عالميا.

الأنشطة الثقافية التي تحقق عوائد من هذا القبيل متعددة ولا حصر لها، وتعد الندوات والمؤتمرات أقلها فائدة قياسا إليها، والأمثلة على ذلك عديدة:

  • ورش العمل، التي تعتمد على التعليم والتعلم العملي لحرفة أو مهنة أو صناعة أو نشاط، في الفنون والصناعات والحرف، وهو ما يحقق عوائد كثيرة، بعضها يتعلق بتنمية الوعي، وبعضها بدعم الإنتاج، وهكذا.
  • ورش الكتابة والتأليف، التي تسهم في صناعة العقول المنتجة فكريا في مجالات وتخصصات وحقول المعرفة المتعددة، وما يترتب عليها من تأثير في رفع معدلات التنمية للدول والشعوب، وضمان إعادة العقل العربي للعلمية والمنهجية والتفكير العلمي بديلا عن السقوط في وهم المعرفة الحادث.
  • التدريب على الصناعات الثقافية والصناعات الإبداعية التي غدت اليوم محورا أساسيا من محاور تصنيف قوة الدول والمجتمعات، وفي الآن ذاته تحقق معدلات التنمية والإنتاج والعوائد المادية.
  • الدورات التدريبية على صناعة المحتوى، والتي يحتاج إليها المتخصصون قبل غيرهم، لأنها المحك الأساسي لمفاهيم القوة عالميا، ولأن النتاج العلمي والثقافي والفكري العربي يغيب عن الساحة العالمية بسبب غياب مفاهيم صناعة المحتوى، مما يجعلنا خارج المؤشرات العالمية للقراءة والكتابة والإنتاج المعرفي (على الرغم من أننا في عصر مجتمع المعرفة والمعلوماتية).
  • التقارير الثقافية والعلمية (تقارير الحالة الثقافية والعلمية)، التي ترصد مؤشرات التأليف والبحث العلمي والكتابة والقراءة والتحولات المجتمعية، والتي لا يمكن لأي حركات إصلاحية أن تحقق أهدافها إلا بالانطلاق من هذه التقارير، إضافة لقيمتها الدولية.
  • استثمار الإعلام البديل (السوشيال ميديا) الذي لم تعد له كلفة، لنشر العلم والوعي والفكر، فحتى الآن لم نجد مثلا جامعة أو كلية استطاعت تسجيل مقاطع فيديو عملية ونشرها عبر اليوتيوب مثلا، أو تخصيص موقع أو صفحة على السوشيال ميديا لعرض تبسيط حقل التخصص، وبخاصة في المعارف التي يحتاجها الجميع (طب الأعصاب والمخ والقلب …. إلخ، زراعة أسطح المنازل، تدوير المخلفات، طب نفس الأسرة….. إلخ).

وهذه مجرد نماذج مختصرة وقليل من كثير يمكن للأنشطة الثقافية الواعية والمدركة لدورها أن تقوم به ليحقق العوائد المرجوة ويخرج بنا من سياق الاختزال وثقافة القشور ومجرد تأدية الواجب، الذي لا يهدف في حقيقته سوى لمحاولة الإثبات أننا نعمل ونشارك في إحداث تنمية، والواقع أنه لا شيء من ذلك يحدث على الإطلاق.

رأيان حول “الفقر الثقافي.. ندوة أم مؤتمر؟، محمود الضبع”

أضف تعليق