خلل تحكيم جوائز الثقافة والفنون، محمود الضبع

يحتكم العالم كله إلى معايير ومقاييس في تحكيم الأعمال الأدبية والفنية وفي الجوائز والمسابقات.. إلا نحن ـ العرب – نحتكم إلى ذائقة أجيال سابقة تفرض نموذجها على أجيال معاصرة لها وعيها المختلف وذوقها الجمالي المختلف.

كيف يحكم ـ مثلاـ من ينتمي ذوقه للشعر العمودي على شعر ينتمي لقصيدة النثر أو الإبيجرام أو الهايكو؟

كيف يحكم من ينتمي وعيه للسرد الكلاسيكي (القصة والرواية والمسرح) على الرواية الجديدة والقصة القصيرة جدا والمسرح التجريبي؟

كيف يحكم من ينتمي وعيه للسينما والفن الكلاسيكي على أعمال تنتمي لما بعد بعد الحداثة؟

كيف لناقد أدبي أو فني يمنح صكوك الولاية منذ الستينات من القرن الماضي (لم أكن قد ولدت حينها) ويصدر الأحكام القطعية حتى على الأنواع الأدبية ذاتها أو على الفنون والمسرح والسينما، وبالتالي يسفه كل كتابة تالية عليه؟

وبالإجمال: كيف نحتكم للذوق ولا نحتكم للمعيار؟ كيف نحتكم لآراء بشرية لابد أن تتأثر بالأبعاد الشخصية ولا نحتكم للوثيقة التي لا تعترف بالمشاعر والعواطف؟

سيرى البعض أن الإبداع والفن والأدب لا يخضع للمعيار والمقياس، وأنه قائم على التجريب والتجديد والتطوير والابتكار والتحديث، وهم محقون تماما، لكن ربما لا يكون شائعا في ثقافتنا العربية أن الإبداع يخضع عالميا لمقاييس مقننة تحتوى في عناصرها هذه الأبعاد وتراعي حداثة النوع الأدبي، وتحتفي بالتجريب والتجديد والتطوير، وهي بذلك تضمن الخروج من الذاتي الضيق المرتبط بالعواطف والانفعالات الإنسانية إلى الموضوعي الرحب المرتبط بالحيادية وتغليب الأفضل.

نحن ما زلنا نحتكم في تقييم أبحاثنا العلمية والأدبية والفنية لآراء الأشخاص الذين يحتكمون بدورهم إلى خبرتهم العريضة بمجال التخصص، ولكن ماذا لو قلنا إن مجال التخصص ذاته اتسع ولم يعد في الإمكان أن يحيط به متخصص كائن من كان، وأن المنهج الصارم محدد المعالم الذي كانت خطواته معروفة قد انقضت أيامه وصار العالم يدين إلى فلسفات ضد المنهج أحيانا، وإلى فلسفات المناهج البينية أحيانا أخرى، ناهيك عن الانفتاح الثقافي والتدفق المعلوماتي وتكنولوجيا العلوم والمعارف التي فتحت المشهد على مصراعيه.

ففي السينما مثلا تدخلت آلاف التفاصيل والعناصر والمدخلات التي لن يستطيع الإلمام بها شخص واحد، وفي الأدب والفن تعددت تيارات المنتج الواحد بما لا يجعل متخصصا لديه القدرة على الإلمام بكل ما ينتجه الإبداع العالمي، أو بتوجهاته، فما مرجعية الحكم هنا على النص الأدبي أو المنتج الفني؟ هل سنكتفي بآراء الأشخاص أم سنحتكم إلى ما يفعله العالم من معايير ومقاييس تضمن الجودة والحيادية وسلامة الحكم؟

لعلنا لو بحثنا قليلا سنجد مراكز تقويم عالمية طورت أدوات تقييم لكل العلوم والفنون والآداب، وخصصت جزءا منها لحكم الفاحص وذوقه الشخصي المستند على الخبرة (لا يزيد عادة عن ١٠٪)، وجزءا لحداثة النوع وما أضافه من تطوير، وجزءا لارتباط النوع بكلاسيكياته، وجزءا للمنهجية (وليس المنهج) أو الحبكة والبناء الفني، وهكذا مما يسمح بالبحث عن هذه العناصر في العمل المراد تحكيمه.

ولعلنا لو اجتهدنا قليلا لاستطعنا إنتاج أدوات تقييم متوافقة مع طبيعة آدابنا وفنوننا وبحثنا العلمي بما يجعلها تنافس عالميا أيضا بدلا من هذا التراجع الواضح الذي نراه فيها بسبب سيادة الضعيف على حساب الجيد والأجود لاعتبارات لا تتعلق بالآداب والفنون ذاتها، ولكنها تتعلق في أحيان كثيرة بعدم القناعة الشخصية (الشخصية جدا) المحتكمة إلى الرأي الشخصي جدا والذوق الشخصي جدا في إصدار الأحكام.

العالم الآن يخضع لمعايير ومقاييس مقننة تضمن الجودة في كل ما ينتجه الإنسان ماديا كان أم فكريا، وهو ما أوجد شهادات الآيزو مثلا ( إحدى المعايير الدولية لقياس جودة المنتج)، وإن كان الإنتاج الفكري لن يقبل هذه الصرامة في تطبيق المعايير والمقاييس فليس معنى ذلك التخلي عنها تماما كما نفعل في واقعنا، وإن كان العالم جميعه يعاني من الخلل في تطبيق هذه المعايير أحيانا بحكم تدخل السياسة ورؤوس الأموال وصناعة الميديا في توجيه الأحكام ومحاصصة الجوائز وخلافه، فإن وجود معايير مقننة يقلل من ذلك وكثيرا ما يمنعه (كما حدث في نوبل للآداب مؤخرا)، وهو في نهاية الأمر أفضل كثيرا من التخلي عن هذه المعايير كلية بدعوى الاعتماد على خبرة المحكمين مهما كانت درجة تخصصهم وخبراتهم العريضة في مجالاتهم، فغلبة الأصوات عادة تكون للأكثر عددا والأقوى شخصية وليس لمعيار الجودة، لأن المعيار غائب من الأساس.

لقد بلغ الأمر في بعض لجان التحكيم العربية أن تعتمد معيارا لا أستطيع استيعابه حتى الآن، وهو قياس جودة العمل بما نشر عنه من مقالات ودراسات، وهو الأمر الذي أدركه كثيرون من الكتاب والفنانين على وجه الخصوص، واستطاعوا استثماره بطريقة أو بأخرى (توظيف من يكتب عنهم).. فأين معيار الجودة عند القائم بالتحكيم، وقد خضع من البداية لسطوة الجهاز الإعلامي وليس للفحص الفني الدقيق؟

ولا عزاء هنا للمفكرين والمؤرخين والنقاد والفلاسفة وأصحاب الرأي مثلا، إذ نادرا ما سيكتب عنهم أحد اللهم إلا خبرا أو عرضا لمؤلفاتهم في صحيفة.

أفيدونا..!!  

أضف تعليق