تأملات في الجهل، سعد عبدالرحمن

الجهل في لغة العرب

استعمل العرب لفظ (الجهل) على معنيين، الأول منهما بوصفه المقابل في المعنى للفظ (الحلم) أي بمعنى الطيش و النزق و الحمق و الرعونة التي تتجلى كلها في العصبية القبلية العمياء، و هذا المعنى هو ما جاء منه مصطلح (الجاهلية) الذي يطلق على عصر ما قبل الإسلام، و منه قول الرسول (ص) لأحد صحابته ينتقده على سلوك مستهجن إسلاميا بدر منه:” إنك امرؤ فيك جاهلية”، و منه أيضا قوله تعالى:” و أعرض عن الجاهلين” و قول  الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم أيضا في معلقته:

                      ألا لا يجهلن أحد عليــــــــنا.. فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و منه أيضا قول الشاعر صالح بن جناح اللخمي:

        فإن كنــــت محتاجا إلى (الحلـــــم) إنني.. إلى (الجهل) في بعض الأحايين أحوج.

و المعنى الثاني للـ ( الجهل) هو المقابل للعلم و المعرفة و الدراية و هذا المعنى هو المقصود في قوله تعالى في سورة النساء:” إنما التوبة على الله للذين عملوا السوء بجهالة”، و قوله تعالى أيضا في سورة الأحزاب:”.. و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا”، و منه  قول عنترة بن شداد:

               هلا سألت الخير يا ابنة مالك.. إن كنت جاهلة بما لــــم تعلمي ؟

 و منه أيضا قول أمير الشعراء أحمد شوقي:

         بالعلم و المال يبني النـــــاس ملكهم.. لم يبـــــن ملك على جـــــهل و إقلال

الجهل كمصطلح

الجهل اصطلاحا هو اعتقاد المرء الشيء على خلاف ما هو عليه، فأن تعتقد أو تتصور مثلا أن النعامة تدفن رأسها في الرمال من الخوف لأنك قرأت هذا في رواية أو مقالة، أو أن الخفاش من فصيلة الطيور لمجرد أنك تراه يطير و يحلق من مكان إلى مكان، أو أن الأرض مسطحة لمجرد أنها تبدو هكذا في مدى رؤيتك البصرية، أو أن الإنسان أصله قرد حسب ما فهم بعض المتخلفين من نظرية داروين، أو أن بول الإبل يشفي الإنسان من بعض الأمراض لأن بعض شيوخ الفضائيات يؤكدون أن الرسول (ص) أمر به، أو أن سبب حدوث الزلازل أن الأرض محمولة على قرن ثور و حين ينقلها إلى قرنه الآخر تحدث الزلازل، أو أن من بنى الأهرام كائنات فضائية هبطت أرض مصر – كما كتب أحدهم – قادمة من كوكب آخر في مجرتنا أو مجرة أخرى، كل ذلك و أمثاله من الخزعبلات في الواقع جهل و من يتعاملون معها على أنها حقائق جهلاء.

و الجهل اصطلاحا أيضا هو أيضا – في رأي بعضهم – عدم حضور صورة الشيء في الذهن، و لا يحضر في أذهاننا شيء ما لم يتصل علمنا به إن حسا أو عقلا، فالإنسان جاهل بما لم يستطع رؤيته أو سماعه أو ذوقه أو أو شمه أو لمسه، و قد يعترض أحدهم بقوله إن الإنسان يستحضر في ذهنه عن طريق الخيال كائنات و أشياء لا وجود لها في الواقع، نعم و لكن حتى ما يتخيله الإنسان أيا كان ما يتخيله لا يخرج عن كونه مزجا أو تركيبا من عناصر خبرها سابقا ببعض حواسه أو بحواسه كلها، و كذلك الإنسان جاهل طبعا بما لا يستطيع عقله التوصل إليه استقراء أو استنتاجا.

الجهل كظاهرة

أما الجهل بوصفه ظاهرة فهو في الحقيقة ظاهرة تلازم الإنسان منذ أن بدأ يعي وجوده على الأرض قبل عشرات الآلاف من السنين أو أكثر.

و يمثل الجهل للإنسان هاجسا مؤرقا يدفعه باستمرار إلى محاولة تبديده و التخلص منه للتعرف على نفسه و العالم من حوله و الكون بشكل أفضل، و لكن الجدوى قليلة فيما يبدو على ضخامة ما تراكم لدينا من علوم و معارف، فكلما اكتشف الإنسان شيئا أو عرف أمرا مما يجهله ازداد وعيه بحجم و مساحة ما يجهله، و لذلك نحن لا نجاوز كثيرا حد الصواب إذا قلنا إن أشد الناس إحساسا بجهلهم هم العلماء، لأن ما يحصله العالم من العلم يكشف له دوما عن مقدار ما لا يزال يجهله فإذا بما يعرفه قطرة صغيرة في بحر ما يجهله و غيض من فيض ما لم يحط به علمه بعد.

على أن بعضنا يتصور أنه ما دمنا في عصر العلم ؛ عصر الانفجار المعرفي و ثورة المعلومات الذي اتسعت فيه مجالات المعرفة اتساعا هائلا لا مثيل له من قبل في أي عصر من العصور، و تحقق للإنسان فيه من المنجزات العلمية والكشوف المعرفية بصفة عامة ما لم يكن في حسبانه أو يخطر بباله على الإطلاق أن يتحقق ؛ إذن فلابد من أن الجهل كظاهرة آخذ في الانحسار و التقلص ؛ و كل أرض جديدة يكتسبها العلم و يضمها إلى مساحة دولته الصغيرة هي أرض يخسرها الجهل من مساحة إمبراطوريته الشاسعة التي لا حدود لها.

و قد يكون الأمر صحيحا من بعض الوجوه و لكنه بالقطع ليس صحيحا من كل الوجوه، فقد اتسع في هذا العصر نطاق الجهل و تنوعت أشكاله بحيث أصبح لدينا أشكال شتى من الجهل ؛ بعضها قديم عرفه أسلافنا و ألفوه و بعضها جديد أوجدته تطورات العصر و تغيراته و لم يكن ليوجد إلا مع هذه التطورات و التغيرات، بيد أن جميع أشكال الجهل بالتأكيد يتصل بعضها ببعض و يؤثر كل منها في الآخر و إن كان لا يقلل من إمكانية تميز كل منها على حدة إذ لكل مجال تجليه و تأثيره الخاص.

الجهل البسيط و الجهل المركب

    من أشكال الجهل التي عرفت من قبل في العصور الماضية شكلان من الجهل مختلفان في الدرجة هما: الجهل البسيط و الجهل المركب.

 الجهل البسيط و هو الأكثر انتشارا و الأقل سوءا و هو الجهل الطبيعي كجهل الأطفال مثلا، و في بعض مناطق الخليج العربي و بعض مناطق الصعيد يطلق الكبار على الأطفال لقب” الجهال” لأنهم هكذا بطبيعة سنهم الصغيرة فعقليتهم ما زالت في طور التكون و النمو لم تنضج تماما بعد و خبراتهم ضئيلة و معارفهم في بداياتها و أغلبها حسي و غير مكتمل، و لكن من أهم سمات الجهل البسيط أنه جهل غير مستغرب كما أنه” جهل لازم” غير متعد بتعبير النحويين أي أنه جهل لا يكاد يتجاوز ذات صاحبه ليؤثر في الآخرين، و يتميز أيضا بأنه جهل مرحلي مؤقت لا يلبث أن يزول بزوال أسبابه فالأطفال يتخلصون رويدا رويدا من جهالتهم البسيطة مع نموهم الفكري و الوجداني و تنامي قدراتهم العقلية و تراكم خبراتهم و اتساع مساحة و عيهم و إدراكهم، و في الواقع إن لكل مرحلة من مراحل العمر نصيبها من الجهل البسيط.

أما الجهل المركب فهو الجهل الذي يأتي من طريق العلم عندما يكون هذا العلم زائفا لا يكشف عن حقيقة أو حتى يحاول الكشف عنها ؛ و عندما يكون العلم ناقصا أو مشوها يقدم معرفة غير مكتملة ؛ أمشاج معرفة، و قد حذر الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا من في كتابه” الإشارات و التنبيهات” من ذلك حين قال:” إياك و فطانة بتراء” أي مقطوعة غير مكتملة.

ذكر ابن منظور صاحب” لسان العرب” في سياق حديثه عن مادة (جهل) أن في الحديث الشريف:” إن من العلم جهلا” قيل و هو أن يتعلم المرء من العلم ما لا جدوى حقيقية منه كالشعوذة و الدجل و ضروب الكدية و الاحتيال، و قيل هو أن يتكلف العالم إلى علم ما لا يعلمه فيجهله ذلك، و قد حفظت منذ شبابي الباكر بيتين من الشعر لا أعرف اسم قائلهما الذي يذكر فيهما هذين النوعين المتقابلين من الجهل مقارنا بينهما بطريقة ذكية طريفة، يقول:

                             قال حمار الحكيم توما.. لو أنصف الدهر كنت أركب

                             فإنني  جاهل  بسيط   ..   و صاحبي  جهله  مركب

و الشاعر هنا يجعل من جهل الحمار مثلا على الجهل البسيط لأنه جهل طبيعي غير مضر و لا تثريب على الحمار في جهله فهو حيوان و الحيوان جاهل بطبيعته، و جعل من جهل الحكيم” توما” مثالا على الجهل المركب و خطورته بالقياس إلى الجهل البسيط.

و يبدو أن توما هذا كان مضربا للأمثال في الجهل المركب فقد ورد عن أبي حيان النحوي بيتان من الشعر يعرض فيهما بـ” توما”، و قد جاء في” الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة” للحافظ ابن حجر العسقلاني عن توما هذا قوله:”  توما بن إبراهيم الطبيب الشوبكي كان عارفا بالطب و له (اختصار مسائل حنين) و كان من أطباء السلطان” ثم قال: و كأنه الذي عناه من قال:

                     إذا رمت العقول بغير شيخ.. ضللت عن الصراط المستقيم

                     و تلتبس العلوم عليك حتى.. تصير أضل من تومـا الحكيم

و خطورة الجهل المركب تكمن في الواقع في كونه يقف حجر عثرة في سبيل تنمية عادة التفكير السليم لدى الناس حيث تظل أنصاف الأفكار و خدائج المعلومات هي المسيطرة على العقول، و حيث تبقى الضلالات التي يقدمها العلماء المزيفون ( بكسر الياء و فتحها) إلى الناس بطريقة سفسطائية تعتمد على المغالطة المنطقية و التلاعب بالألفاظ و الاستدلالات الفاسدة هي صورة العلم الصحيح الذي يرفض أية محاولة للتحقق من صدقية محتواه.

الجهل الشائع أو العمم

من أشكال الجهل المعروفة شكل شائع جدا فهو جهل يكاد يشمل المجتمع كله ويمكن تصنيفه على قسمين:

قسم منه يرجع إلى الأمية الأبجدية أي الجهل بالقراءة و الكتابة  و للأسف هذا النوع من الجهل رغم الجهود المستمرة منذ عقود طويلة من الزمن لحصاره فإنه شائع و منتشر لاسيما في شعوب دول العالم الثالث، و إخفاق هذه الجهود أو ضعف و تهافت نتائجها يعود إلى أسباب كثيرة منها أسباب لم تعد موجودة تقريبا كالاستعمار الذي جثم على صدر كل هذه الشعوب عقودا طويلة من الزمن و كان حريصا على أن تظل الأمية سائدة بين المواطنين فذلك كان يخدم مصالحه سواء في السيطرة أو الاستغلال، و منها أسباب قديمة جديدة مثل العشوائية في معالجة الظاهرة فلا خطط سليمة للمعالجة و لا جدية تتناسب مع خطورة المرض ؛ فضلا بالطبع عن الفساد الذي لا يزال ينخر في مؤسسات التعليم المعنية و يلتهم كثيرا من الأموال و الميزانيات التي ترصد لتمويل هذه الخطط، و الفساد الذي من نتائجه تحول  المناهج التعليمية و المقررات الدراسية في مراحل التعليم المختلفة بما في ذلك التعليم الجامعي إلى سبوبة و تجارة، و ضعف القوانين التي تمنع التسرب من التعليم في مراحله الأولى و التراخي أو عدم الجدية في تطبيقها، و قد زاد الطين بلة أن معظم نظم التعليم في دول العالم الثالث نظم فاشلة.

و لقد طرأ الآن على ذهني سؤال هو: لماذا معظم من يتولون رئاسة” الهيئة العامة لمحو الأمية و تعليم الكبار” بمصر في الأغلب الأعم عسكريون رغم أنها – بدون أي لبس – هيئة تعليمية و ليست هيئة حربية أو مؤسسة أمنية ؟

قد تكون الأمية الأبجدية قد تقلصت بعض الشيء عما كانت عليه بلا شك  قبل خمسين أو ستين سنة و لكن ما تزال هذه الأمية حتى الآن تجهض كثيرا من محاولات النهوض الحضاري لدى كثير من شعوب العالم الثالث و تطوير قدراتها و تحديث أساليب حياتها، و ما تزال تلقي بظلالها و آثارها السلبية على عقلية الأجيال الصغيرة و الشابة التي نشأت في كنفها.

إن التخلي مثلا عن الطرق التقليدية في الزراعة و الري و تبني الطرق الحديثة في المجالين و التوسع في استخدام الميكنة و استنبات سلالات جديدة من الحبوب و الخضر و الفاكهة أقدر على مقاومة الآفات، و الحفاظ على البيئة و الحملات المستمرة التي تستهدف توعية المواطنين صحيا من أجل القضاء على الأمراض المتوطنة و الوقاية من الأمراض الوبائية المعدية و الدعوة إلى تنظيم الأسرة و التبصرة بمخاطر زيادة النسل على الفرد و على الأمة جمعاء، و شرح و توضيح العلاقة بين زيادة النسل و كثير من مشاكلنا الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية، و محاولات علاج بعض الأدواء الاجتماعية التي تتمخض عن كثير من التقاليد البالية و العادات المتخلفة، فللأسف الشديد ما زالت هذه العادات و التقاليد تحكم سلوك الأفراد و الجماعات في كثير من المناطق و بخاصة الريف و التجمعات السكانية العشوائية و يتعارض أغلبها مع تعاليم الدين و قيمه و قيم الدولة المدنية الحديثة التي تقوم على وحدة الأمة لا وحدة القبيلة و العائلة، كل هذه الأهداف التي ذكرناها كأمثلة و غيرها يظل مصيرها مرهونا بما يتحقق من نجاحات في مجال حصار الأمية الأبجدية في أضيق نطاق إن لم يكن في الإمكان القضاء عليها تماما.

و القسم الآخر من الجهل الشائع يرجع إلى النوع الأخطر من الأمية و هو ما اصطلح على تسميته بـ” الأمية الثقافية” و مجال فعل هذه الأمية أوساط المتعلمين، و تكاد تكون المؤسسة التربوية هي المسؤولة عن خلق هذا النوع بمناهجها و طرق تدريسها و نظم امتحاناتها و تقويماتها التي تساهم كلها مجتمعة في تحويل العملية التعليمية إلى شكل تم تفريغه من مضمونه حيث يصبح الاهتمام مركزا فقط على ذاكرة التلميذ أو الطالب فقط من دون كل ملكاته و قدراته الذهنية، و تبدو المسالة و كأنها لا تعني إلا حشو و ملء هذه الذاكرة بمعلومات نظرية لا صدى لها في واقع الحياة فضلا عن تناقض بعضها و تخلف بعضها الآخر، و لذلك سرعان ما تتسرب من ثقوب الذاكرة إلا قليلا مما لا غناء فيه و لا كفاية.

و خلال سنوات التعليم بمراحله المختلفة لا تفلح المؤسسة التربوية لا في خلق عادة القراءة الجادة الهادفة و ترسيخ قيمة الكتاب و أهمية المكتبة في نفوس النشء و لا  تفلح في خلق عادة البحث عن المعرفة و تلمسها في مصادرها و مظانها و لا عادة التفكير العلمي السليم الذي يتحرى الدقة و يحرص على الموضوعية فلا يختلط بالعاطفة و لا يشوبه الانحياز و لا يعتمد على الحدس و التخمين و لا يميع الحدود بين الحقول المتمايزة أو المتعارضة ( المنطق و اللامنطق، الواقع و الخيال، الحقيقي و المجازي، المستحيل و الممكن إلخ إلخ).

و من ثم فإن الطالب  يتخرج في الجامعة لدينا و يسلك سبيله في الحياة و هو يكاد يكون أميا لا يعرف جيدا من قدراته إلا القدرة على التذكر و لا يستثمر من حواسه سوى حاسة السمع، و تلك المعلومات التي حصلها لطول عهده فقط بالتلقي السلبي أو الشبيه بالسلبي في مراحله الدراسية المختلفة تصبح كلها عتيقة و بالية بعد فترة وجيزة من الزمن ؛ و تتآكل باستمرار بسبب افتقادها إلى الاستخدام الخلاق في الواقع المعيش و حاجتها دائما إلى الصقل و التجديد، و أنى له أن يفعل ذلك و هو لا يمتلك من وسائل الفعل شيئا ؟.

و مما يزيد الأمر صعوبة و تعقيدا أن مؤسسات كثيرة (ثقافية و إعلامية) تقوم للأسف بدور كبير في ترسيخ هذا النوع من الأمية و توسيع دائرته، نضرب على ذلك مثالا بالقنوات التلفزيونية الأرضية و الفضائية التي تستحوذ على اهتمام أغلب قطاعات المجتمع و تقتحم على الناس بيوتهم و تطاردهم حتى في مخادع نومهم برضاهم طبعا، فهذه القنوات سواء مملوكة للدولة أو القطاع الخاص تقدم إلى جماهيرها و هم مسمرون أمامها في حالة غيبوبة أشبه بغيبوبة المنومين مغناطيسيا مواد و برامج و أعمالا فنية يغلب عليها طابع الاستسهال و الارتجال و تتسم طرائق معالجاتها للموضوعات و القضايا بالتفاهة أو عدم الجدية و الفبركة و التزييف أحيانا، و التركيز على الإثارة أحيانا أخرى للحصول على أعلى نسب مشاهدة من أجل بيزنس الإعلانات، و تتسم أيضا بعدم الإحساس بالمسؤولية المتمثل في عرض كثير من الأفلام و المسلسلات المحلية و الأجنبية الزاخرة بمشاهد العنف و الجريمة و البطولات الزائفة و العلاقات المشبوهة و برامج التوك شو بوصفها ساحات جديدة لتقديم و عرض حوارات و مناظرات هي أشبه بمصارعات الثيران و مبارزات الديكة، من خلال كل ذلك تمر إلى وجدان المشاهدين و عقولهم أنماط منحرفة غير سوية من الحياة و أنساق و أساليب من التفكير غير العلمي لها انعكاساتها السلبية المباشرة في حياتنا، و ثمة ما هو أخطر الآن على شبكة النت و السوشيال ميديا مما لم نتعلم بعد كيف نمسك به من حده النافع متجنبين حده الضار المؤذي.

و هناك أيضا المسرح، و السائد في مسرح القطاع الخاص التهريج و التسلية الرخيصة التي تقتل الذوق و تفسد الوعي و تسخر من القيم و الأخلاق و تدعو إلى التمرد عليها و تزرع البلادة في الأذهان ( مدرسة المشاغبين مثالا) و في مسرح الدولة يسيطر منطق السبوبة على كثير من العروض كما أنها عروض إن لم يكن معظمها لهواة محدودي الموهبة فكثير منها كذلك، لذلك هي عروض بدون جمهور أو بجمهور مصطنع، بالطبع هناك استثناءات من هذا كله و لكنها تبقى مجرد استثناءات محدودة المجال و محدودة التأثير أيضا في وسط هذا الغثاء الطامي الجارف الذي يتسع كل يوم مداه و يتعمق تأثيره،

كل هذا و غيره يسهم بقوة في توسيع دائرة الأمية الثقافية و يعمق من تأثيراتها السلبية في حياة الأفراد و المجتمع، فكل خطط التطوير في المؤسسات الرسمية و غير الرسمية و برامج التخطيط التنموية من أجل اللحاق بركب التقدم العلمي الشامل تخفق لأن الأمية الثقافية تجهضها، حتى محاولات النخب السياسية و الثقافية جذب المجتمع إلى ساحة ممارسة الديمقراطية و مشاركة قطاعات أكبر من الشعب في” النضال بوعي” ضد قوى الاستبداد و الفساد في المجتمع و السعي نحو بناء دولة مدنية حديثة هي أيضا محاولات لن يكتب لها النجاح ( إخفاق ثورة 25 يناير مثال على ذلك) لأسباب شتى في مقدمتها شيوع الأمية الثقافية، فالأمية الثقافية تعني تدني مستوى الوعي و تدني مستوى الوعي هو ما يترك الناس رهينة في أيدي أبالسة تزييف الحقائق و تلبيسها عليهم لصالح المستبدين و الفاسدين.   

جهل التخصص

من أنواع الجهل المعاصر ما يعرف بـ” جهل التخصص” فمع اتساع نطاق العلم و كثرة الفتوحات و الاكتشافات العلمية لم يعد ثمة وجود للـ” العالم الموسوعي” الذي لديه القدرة و الوقت الكافيان لأن يحيط بكل أو جل المعارف و العلوم في عصره أو حتى الإحاطة بمجمعة متكاملة منها كما كان الحال في العصور و الأزمنة الماضية.

أي أنه لم يعد متصورا الآن أن نرى بيننا من يمكن أن نصفه بأنه عالم في الطب و الرياضيات و الفيزياء و الموسيقى و الفلسفة و الأدب كما كان في العصور الماضية مثل الفارابي و ابن سينا أو ليبنتز أو العقاد ؛ ليس لأن العلماء و المفكرين المعاصرين أقل في المقدرة العقلية من أسلافهم و إنما لأن حجم المعارف و المعلومات في هذه العلوم التي تفرع كل علم منها إلى مجموعة من العلوم أصبحت فوق قدرة أي عقل إنساني مفرد، فالعالم بالكاد يستطيع الإحاطة بتفاصيل علم واحد من تلك العلوم التي كان يحيط بها العالم الموسوعي في القرن الحادي عشر أو القرن الثاني عشر أو القرن الثامن عشر الذي يعده كثيرون آخر حدود الموسوعية، بل بالكاد يستطيع العالم الآن الإلمام بكل المعارف و المعلومات التي يحتويها فرع من فروع العلم الواحد و تزداد كل يوم مجالات التخصص ضيقا حتى أصبحنا نقرأ و نسمع اليوم دون أن يثير فينا ذلك أية دهشة عن التخصص في جراحة قرنية العين فقط أو التخصص في معالجة نوع واحد من أمراض المخ و الأعصاب أو التخصص في دراسة طريقة بعينها من طرق الزراعة كطريقة زراعة النباتات داخل الصوبات المعروفة بـ” الزراعة المحمية” أو في دراسة نوع واحد من النباتات أو الحيوانات أو الحشرات أو نوع واحد من الأحياء المائية الدقيقة أو التخصص في دراسة جانب لغوي ( دكتوراه في حتى) أو أدبي واحد لدى مجموعة من الشعراء أو لدى شاعر واحد.

و من يقرأ في علم” هندسة الجينات” الذي هو أحد فروع علم الوراثة أو يقرأ عن الجينوم البشري و الـ DNA أو يقرأ عن النانو تكنولوجي أو الفيمتو ثانية و ما إلى ذلك من تخصصات دقيقة جدا سيعرف إلى أي مدى يسوقنا إليه التخصص عندما نمعن فيه خلال الخمسين سنة القادمة، و قد ترتب على صعوبة بل استحالة الإحاطة بكل ما اكتشف و عرف من معلومات و معارف في مجال علم واحد أو مجال فرع من فروع العلم الواحد لكثرته و وفرة تفاصيله شكل جديد من أشكال الجهل لم يكن موجودا من قبل على هذا النحو في العصور و الأزمنة الماضية هو ما نسميه” جهل التخصص”، و قد ساهم بقوة في ازدهار هذا النوع من الجهل ما حدث من تطور مذهل في مجال المواصلات و الاتصالات أدى إلى تسارع في وتيرة التقدم العلمي و تدفق هائل غير مسبوق في مجال تبادل المعلومات و في تطور تكنولوجيا الحفظ و التخزين الإلكتروني و غيرها، لم يعد الإنسان اليوم في حاجة إلى أن يملا بيته بالكتب و شرائط الكاسيت و الفيديو و السيديهات كما كان يحدث من قبل ما دام يمكنه حفظ و تخزين مكتبة كاملة سمع بصرية على وحدة تخزين إلكترونية كبيرة أو صغيرة بحسب الحاجة، و لماذا أنت في حاجة إلى التردد الدائم على المكتبات للبحث في الموسوعات و المعاجم على معلومة أو معنى كلمة ما دمت تستطيع في أي وقت من خلال موبايلك أو آيبادك أو كومبيوترك المحمول إنجاز ذلك في أي وقت و أي مكان بالدخول على جوجل او غيره من محركات البحث ؟.

في الواقع  لم تعد هناك حاجة مجتمعية في هذا العصر  إلى وجود علماء موسوعيين لهم عقول جبارة تحيط بكل علوم زمنهم أو معظمها في عصر شيوع التخصص في العلم، و لذلك ازدهر” جهل التخصص” فلا تعجب و لا تندهش عندما تسمع إلى واحد من أولئك العلماء المتخصصين في فرع ضيق من العلم أو تطبيقاته و هو يدلي برأيه في مشكلة سياسية أو قضية اجتماعية أو يعرض وجهة نظره في أزمة اقتصادية أو مشكلة تربوية فتجده على خلاف ما تتوقع.. جاهلا إلى حد كبير بأمور يعدها أغلبنا في منتهى البساطة، و لكننا عندما نثوب من عجبنا ونفيق من دهشتنا و نتفحص الأمر نجد أنه نتاج ما أسميناه” جهل التخصص”.

الجهل الموجه

ثمة شكل آخر من أشكال الجهل المعاصر هو” الجهل الموجه” و هو جهل تبثه قنوات و إذاعات مرئية و مسموعة و تنفثه صحف و مجلات و تطفح به كتب كثيرة و متنوعة و تزخر به الشبكة العنكبوتية و مواقع السوشيال ميديا و تقوم عليه صناعة من أخطر الصناعات هي صناعة الجهل التي تقف وراءها جهات و مؤسسات و هيئات و منظمات بل دول كبرى لها أهداف و أغراض شتى مشبوهة في أغلبها، تعمل من أجل تسويقها في مجتمعات معينة و بخاصة مجتمعات العالم الثالث النامية لتخريب وعيها أو تزييفه، و الجهل الموجه من مظاهر ما كان يسمى من قبل بـ” الغزو الثقافي” و أصبح منذ مطلع التسعينيات عنصرا من عناصر العولمة، هذه الظاهرة التي تتحكم فيها دول الجبروت الغربية و تستغلها كوسيلة لتمييع الحدود و تغيير هويات الشعوب و تبديل إراداتها من أجل السيطرة عليها و التحكم في مصائرها و مقدراتها، و في تصوري أن الجهل الموجه هو أخطر أشكال الجهل من حيث صناعته و من حيث آثاره و نتائجه الوخيمة، فمن حيث صناعته هو يصنع وفق أحدث أساليب العصر و تستغل نتائج علوم شتى في تمويه مظهره و زيادة فعاليته و تأثيره و نشره و تسويقه بين الجماعات المستهدفة.

يعتمد الجهل الموجه كإستراتيجية في نشره و تسويقه و الإقناع به على عنصر التشكيك في قناعات كثيرة دينية و قومية و ثقافية تشكل قوام شخصية المجتمع تحت أسماء و عناوين لامعة براقة و باسم العلم و البحث العلمي لا من أجل تطوير هذه القناعات و تخليصها من العناصر اللاعقلانية فيها و لكن من أجل تفريغ العقل و الوجدان منها فإذا حدث ذلك فإنه حسب قانون الإزاحة يتم عندئذ ملء الفراغ بإحلال قناعات أخرى بديلة مكانها.

هذه القناعات الجديدة البديلة هي في أغلبها قناعات غير عقلانية تتستر وراء مظهر عقلاني و لكنها في النهاية قناعات تمهد للانبطاح و الاستسلام و القبول بما لم يكن في الإمكان القبول به من قبل، و مما يؤسف له أن أفرادا و جماعات و هيئات من داخل المجتمعات المستهدفة تقوم بدور كبير كطابور خامس في هذه العملية بعضها عن عمد و سوء نية و بعضها الآخر عن غير عمد و بحسن نية.

و يكفي أن نعرف أن السلطات المستبدة تجد دائما في هذا الشكل من الجهل فرصتها الثمينة و وسيلتها الناجحة لتضليل الجماهير و تدجينها لصالح بقائها و استمرارها و حتى في أعتى الأنظمة التي تعرف بالأنظمة الديمقراطية نجد ما يمكن تسميته بالاستبداد الديموقرطي – بحسب تعبير الدكتور عصمت سيف الدولة في كتاب له بهذا الاسم – يتم لصالح قوى اقتصادية ( صناعية و تجارية) و إعلامية تصنع النظام الذي يحقق مصالحا و أهدافها القومية و العابرة لقوميتها وفق آليات تبدو ديمقراطية في شكلها الخارجي و لكنها عند الفحص و التمحيص هي في جوهرها آليات استبدادية.

و ما” الإنسان  ذو البعد الواحد” الذي تحدث عنه هربرت ماكيوز في كتابه الذي يحمل هذا العنوان إلا شخص طمس الجهل الموجه معطم أبعاد شخصيته الحيوية إن لم يكن كل أبعادها و لم يعد له سوى بعد واحد فقط من شخصيته هو البعد الذي أرادوه أن يبقى، البعد الذي لا يشتمل على أي من عناصر الإرادة الحية المستقلة و لا أي سمة من سمات الروح الإيجابية الطامحة إلى التغيير نحو الأفضل.

الجهل العلمي

العنوان قد يبدو متناقضا و لكن في الواقع المقصود به شكل آخر من أشكال الجهل المعاصر هو الجهل الذي يرتبط بالعلم و مجالات البحث العلمي، إنه نوع من الجهل لا يعرفه و لا يحس بقيمته كدافع من دوافع الاستمرار في البحث و التغلب على العقبات التي يزخر بها طريق البحث و تحمل مشاقه و تقبل التعثر و الإخفاق أحيانا كنتيجة طبيعية لمرحلة من مراحله إلا العلماء، إنه جهل إيجابي إن صح التعبير لأنه يمثل جزءا من تكوين العلم، فالعلم أشبه بلوحة يسقط الضوء على بعض جوانبها بكميات مختلفة فجوانب منها مضيئة و لذلك هي واضحة شديد الوضوح و مرئية و جوانب لم يعرف الضوء بعد طريقا إليها مظلمة بالكامل غير واضحة و غير مرئية بالطبع و بينهما مساحات متفاوتة في الوضوح و عدم الوضوح، الجوانب المضيئة هي التي اكتملت معرفة العالم بها في مجال بحثه و الجوانب المظلمة هي التي يجهلها.

و العلماء دائبو المحاولة من أجل تسليط الضوء على مزيد من جوانب اللوحة المظلمة، إنهم مشغولون باستمرار بأمر ما يبدو لهم من ظواهر الطبيعة أو الإنسان و يمر العلماء خلال بحوثهم و دراساتهم عن أسباب هذه الظاهرة أو تلك و أليات عملها و العناصر التي تسهم في تشكيلها والظروف المؤثرة فيها و القوانين التي تحكم نشاطها بحالة من حالات الجهل المؤقت يكونون فيها ( أي العلماء) جاهلين بما قد توصلهم إليه دراساتهم و أبحاثهم من نتائج حيث تظل معرفتهم  – لفترة قد تطول أو تقصر و فق عوامل شتى – محصورة في مجموعة من العناصر أو المقدمات ذات الدلالات غير الواضحة ( مساحات اللوحة حيث الضوء قليل و خافت) و هذا ما يجعل الموضوع يعني لدى أولئك العلماء” مشكلة علمية”.

و مع كل خطوة يخطوها العلماء و يحرزون بها تقدما في بحثهم لهذه المشكلة يأخذ الجهل الذي كانوا غارقين فيه قبل بداية البحث في التبدد رويدا رويدا إلى أن يزول تماما حين يسطع نور الحقيقة / اليقين نور الحقيقة / العلم في شكل نتائج صحيحة قابلة للاختبار و التطبيق أو تتسم بقابليتها للتكذيب بحسب وجهة نظر كارل بوبر، و يتوقف تبدد  الجهل العلمي “ على مدى ما يتوافر بين يدي العالم أو العلماء المختصين من تلك المقدمات و العناصر المتعلقة بالظاهرة / المشكلة و مدى ملائمة المنهج المستخدم في البحث، و أي قصور يشوب هذين العاملين أو أحدهما يعني بالضرورة أن يتحمل العالم وطأة ملازمة هذا النوع المقلق المستفز من الجهل مدة أخرى من الزمن حتى يتلافى هذا القصور أو يتلافاه غيره ممن يعملون في نفس المجال من جيله أو من أجيال لاحقة على جيله.

الجهل العملي

ثمة شكل سادس من أشكال الجهل المعاصر هو يتعلق بعملية الحوار مع الواقع و اتخاذه لا بوصفه مجالا لتطبيق الأفكار و المعلومات بهدف اختبارها بل بوصفه في الأساس مجالا لإنتاج الأفكار و المعلومات الأكثر جدوى و ملاءمة من خلال فهمه ( أي الواقع) فهما عميقا و التفاعل معه باليد و العقل معا لا بأحدهما فقط.

هذا الشكل من أشكال الجهل المعاصر يمكن تسميته بـ” الجهل العملي” أو” الجهل بالواقع”، إن اليد و العقل معا هما العاملان الأكثر فعالية و تأثيرا في بناء الحضارة الإنسانية، و العلاقة الجدلية بين العقل و اليد هي الأساس الصلب في نجاح أي مشروع حضاري، و لا يمكن لأي مشروع حضاري مهما توافرت له كل الظروف و الإمكانيات أن ينجح طالما هناك قطيعة بين العقل و اليد، إن القطيعة بينهما لا تعني سوى أمرين: الإخفاق الذريع و استمرار حالة التخلف.

و في مجتمعات العالم الثالث ما تزال القطيعة بين العقل و اليد قائمة لأن هناك فكرة مثالية فجة تسيطر على عقول الناس بما في ذلك المثقفون الذين يعتقد كثيرون منهم بصحتها، هذه الفكرة تختزل الحضارة و تعتبرها نتاجا فقط لعمل العقل فقط فهو في عرفهم المولد العظيم للأفكار، و بسبب ذلك نجد ظاهرة عجيبة من” الحداثة الكاذبة” في بعض هذه المجتمعات، حداثة شكلانية ؛ حداثة تتجلى في اتساع نطاق الأشياء المادية الحديثة المنتجة خارج هذه المجتمعات أو حداثة محصورة فقط في نطاق الأفكار المجردة و المعزولة عن الواقع الذي ما يزال يتخبط في وحل تخلفه البشع، ويبدو تخلف المجتمع أشد ما يكون وضوحا في مجال الاعتماد على التكنولوجيا التي يكتفي المجتمع بمجرد استيرادها و استهلاكها، و مع استيراد هذه التكنولوجيا تضيف المجتمعات النامية كما يقول الدكتور فؤاد مرسي في كتاب له بعنوان” الرأسمالية تجدد نفسها” إلى صور تبعيتها صورة جديدة هي التبعية التكنولوجية، و من مظاهر الحداثة الكاذبة لدينا نحن العرب مثلا سيطرة منطق الكم على منطق الكيف في كثير من مجالات حياتنا الهامة، و نضرب على ذلك مثالا بهذا التوسع الكبير في نشر التعليم الجامعي حتى لقد أصبح في كل محافظة من محافظاتنا جامعة بل في بعض المحافظات جامعتان و ثلاثة و الأمر في زيادة مستمرة من خلال دخول التعليم إلى دائرة البيزنس بقوة و يتمثل ذلك بوضوح شديد في ظهور الجامعات الخاصة، آلاف مؤلفة تتخرج كل عام في هذه الجامعات و في تخصصات شتى لتنضم إلى طوابير هائلة من العاطلين و ذلك لأن التوسع عشوائي غير مدروس فليس هناك أي خطط تربط التعليم الجامعي باحتياجات السوق سواء المصرية أو العربية، علما بأن كثيرا من الدول العربية أصبح لديها اكتفاء ذاتي في جانب كبير من احتياجات سوق العمل لديها هذا فضلا عن بدء انحسار عصر البترول والتراجع القسري لظاهرة الهجرة إلى بلدان الخليج العربي بحثا عن فرص عمل، و مع عدم مراعاة التخطيط السليم بالنسبة للتعليم الجامعي لكي يراعي على الأقل في تخصصات خريجيه احتياجات الواقع أصبحت المشكلة أكثر من فادحة و” اتسع الخرق على الراتق” كما يقول المثل.

على أن الحداثة الكاذبة تتجسد بقوة في ذلك السيل الطامي من الدراسات و الرسائل الجامعية ( دبلومة و ماجستير و دكتوراه) التي أصبحت شكلا مفرغا من مضمونه فلم تعد تعني شيئا بالنسبة لمن يحصل عليها سوى أنها وسيلة للحراك الفردي في المجتمع و محاولة الالتحاق بهامش الصفوة، و بعد الالتحاق بهيئة التدريس الجامعي مدرسا مساعدا فمدرسا فأستاذا مساعدا فأستاذا لا يكون الاستمرار في الاجتهاد – إن كان هو اجتهادا من أصله – مع شيوع الفساد و تزييف الرسائل أو سرقتها أو تأليفها لمن يدفع التكاليف إلا من أجل المزاحمة و الخوض في الصراعات على المقاعد الإدارية في الكلية ثم الجامعة و لا بأس من التآمر على المنافسين و الدس لهم عند الجهات الأمنية و غيرها، و في غمار هذا كله تاه و ضاع الهدف الأساسي أي الإنجاز العلمي، و تراجعت الأهداف الحيوية التي من أجلها أنشئت الجامعة و في مقدمتها خدمة المجتمع المحيط و تطويره عن طريق توظيف نتائج أطروحات الماجستير و الدكتوراه العلمية ( غير المسروقة و غير المزيفة) في معالجة مشكلات واقعنا و نقل هذا الواقع المتخلف بضع خطوات على طريق الحداثة الصحيحة.

و من مظاهر الحداثة الكاذبة التي يتمثل فيها ما أسميناه بـ” الجهل العملي” أيضا هذا التكالب المتزايد على التشبه بالمجتمعات المتقدمة و تقليدها في كثير من الأمور شكلا فحسب كأن يكون لدينا مراكز للبحث العلمي و مراكز للفنون بغض النظر عما إذا كان يتوافر لهذه المراكز من المقومات الأساسية ما يجعلها مراكز فاعلة تخدم المجتمع حولها أم لا، أو أن يكون لدينا متاحف لا يدخلها أحد من المصريين، أو أن يكون لدينا كذا و كذا و كذا  لمجرد الرغبة في الإيحاء بالتطور و التقدم، و أن تزخر شوارعنا و منازلنا و مقار أعمالنا بالكثير من عناصر التكنولوجيا المستوردة من مختلف بلاد العالم المتقدم و كثير منها تكنولوجيات ثانوية لسنا في حاجة ماسة إليها و سواء كانت هذه العناصر التكنولوجية لازمة أو ثانوية فلا نصيب لنا للأسف في ابتكار أو إنتاج شيء منها اللهم إلا الدهشة التي تعترينا عندما نراها لأول مرة و ما نتكبده من أموال عند شرائها.

هذا الكم الهائل من العناصر المقلدة و العناصر المستوردة في حياتنا تعني أننا نفضل منطق الكم على منطق الكيف و قد أفضى ذلك إلى حدوث ما يسميه مالك بن نبي بمشكلة” تكدس عناصر الحضارة”  لقد كدسنا كثيرا من عناصر الحضارة على المستويين الجمعي و الفردي في بيوتنا و في شوارعنا و مقار أعمالنا دون أن نصنع حضارة بل نحن ما زلنا نتعثر في أذيال تخلفنا، لماذا ؟ لأن الحضارة هي أكثر من مجرد تكديس لعناصرها، إن الحضارة تبدأ بمساءلة الواقع و الإنصات إلى إجاباته عن ماهية عناصر الحضارة المناسبة له، و عبر التفاعل الخلاق ما بين العقل و اليد يتم خلق و صناعة هذه العناصر.

أما أكثر مظاهر الحداثة الكاذبة تجليا و وضوحا لدينا على الإطلاق فهو ذلك الهوس الذي نراه عند أدبائنا و نقادنا بتقليد كل ما يظهر في ثقافة الغرب من تقليعات و صيحات أدبية و نقدية هي في معظمها أشكال تمرد و ردود فعل لأحداث و تطورات خاصة بمجتمعاتهم تاريخية و اجتماعية و سياسية و علمية..إلخ إلخ، فبينما تتناسب هذه التقليعات و الصيحات الشكلانية المتبرمة بالعقلانية الشديدة و المنطق الصارم و النظام مع ظروف الإنسان في الغرب حيث أصبح التقدم العلمي و الصناعي التكنولوجي يمثل خطرا في رأي أصحابها على إنسانية الإنسان فإنها لا تتناسب في أغلبها مع ظروفنا نحن الرازحين تحت نير التخلف لأننا لا نحتاج مثلهم إلى التمرد عليها بل إلى التمرد على ما يناقضها، نحتاج أن نتمرد على اللاعقلانية ؛ أن نتمرد على اللامنطق ؛  أن نتمرد على اللانظام الذي يملأ حياتنا، و لا يفهمن أحد من كلامي هذا أني ضد التفاعل مع ما تنتجه الثقافة الغربية من أفكار خلاقة و أدوات تحليل و نقد فذلك ما لا أقصده مطلقا، إنني فقط ضد أن نظل أسرى حالة الاستلاب التي تمسك بتلابيبنا و أن نستمرئ العيش في وهم أننا متقدمون حداثيون لمجرد التزيي بأزيائهم الفكرية و النسج على منوالهم في الإبداع و النقد و كأنه ليس لنا تراث زاخر بالعناصر الإيجابية يمكننا تطويره و التأسيس عليه.

باختصار شديد إذا كنا نظن أن تحديث أذهاننا بالتماهي مع كل ما ينتجه الذهن الغربي من مصطلحات و مذاهب و مدارس و توجهات استجابة لواقعه هو يجعلنا متقدمين مثلهم لهو وهم كبير و ليس في مصلحتنا أن نعيش في الأوهام، صحيح أننا نعيش نحن و هم في زمن واحد و لكن ثمة فرق في الواقع بين أن نكون متزامنين و أن نكون متعاصرين، إنهم في عصر بينما نحن في عصر آخر يمثل ماضيا بالنسبة لعصرهم.

الجهل السلوكي

آخر ما لدينا من أشكال الجهل هو الجهل السلوكي أي ما يتعلق بسلوكياتنا و تناقضاتها مع ما نؤمن به نظريا من قيم و مبادئ دينية و أخلاقية.

إن سلوكياتنا العامة سلوكيات تتنافى مع ما نتشدق به من كلام عن الأخلاق و ما نلوكه صباح من تعاليم الدين، فالضوضاء و الصخب و تبادل الشتائم البذيئة و سب الدين لا سيما بين الشباب و انتشار أساليب الفهلوة و الشطارة و غياب فضائل عملية كالنظام و النظافة و الأمانة و الإتقان و ذيوع الكذب و شيوع الدس و الوقيعة و الغيبة و النميمة و ازدهار سلوكيات التزلف و التسلق و النفاق و استحلال المال العام وإعادة إنتاج الاستغلال بحيث أصبح كل منا يحاول أن يعوض ما لم يحصل عليه من حقوقه من جيوب أمثاله من المظلومين.

أليس مثيرا للدهشة أن نقول: ( إن النظافة من الإيمان) بينما القذارة و القمامة تملأ أحياءنا و شوارعنا حوارينا ؛ و تزكم رائحتها الكريهة الأنوف ؟.

 أليس مثيرا للدهشة أن نردد قول الرسول (ص): ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم أن يتقنه) و نحن لا نتقن شيئا نفعله ؟ مما جعل بضائع و سلعا أجنبية بسيطة غدا تغزو أسواقنا لا بسبب رخص أسعارها فقط و إنما السبب الأهم هو أنها متقنة الصنع بالقياس إلى سلعنا و مصنوعاتنا.

 أليس مثيرا للدهشة أن نقول إن” العمل واجب و العمل شرف” و أن نقول” اليد البطالة نجسة” و أن نقول: بينما نتفنن في المروق و الروغان من وظائفنا و أعمالنا أو نجلس في أماكن عملنا دون أن نفعل شيئا أو نستهلك الساعات فيما لا يستحق إنجازه إلا الدقائق و الثواني  ؟.

أليس مثيرا للدهشة أن نردد: ( لعن الله قوما ضيعوا الأمانة بينهم) و لا أمانة نصونها و نحافظ عليها متطوعين ؟ بل إذا فعلنا ذلك فعلناه في اغلب الأحايين مضطرين و عندما نفلت من حالة الاضطرار فالحفاظ على الأمانة في تقييمنا بلاهة و سذاجة.

أليس مثيرا للدهشة أن نصدق قول الرسول ( صلى الله عليه و سلم):” من بات كالا من عمل يده بات مغفورا له” و ننوه به في حين أننا نحتقر الأعمال اليدوية و ننظر إلى الحرفيين و الشغيلة تظرة دونية و نبخسهم حقوقهم ؟

أليس مثيرا للدهشة أن نتبجح بأن الإسلام أنصف المرأة و أن من علامات التقوى و الالتزام بأحكام الله أن نعطيها حقوقها الشرعية بينما أغلبنا عندما يأتي ظرف توزيع الميراث يرفض رفضا جازما أن تأخذ أخته أو عمته أو خالته أو زوجة أبيه حقها الشرعي ففي مثل هذا الظرف يكون العرف الظالم و العادة الجائرة أقوى من شرع الله سبحانه و تعالى.

أليس مثيرا للدهشة أن كلا منا يزعم كراهيته للفساد، وغالبيتنا يدعون إلى محاربة الفاسدين بيد أنك حين تدقق في الأمر تجد أن الفساد المكروه هو فساد الآخرين و الفساد المطلوب محاربته هو فساد غيرنا و ليس فسادنا نحن، و إذا ضيقت الخناق على أؤلئك المتناقضين دفع بعضهم التهمة عن نفسه بأن الفساد المطلوب محاربته هو الفساد الكبير أو فساد الكبار و كأن المسألة مسألة كم و درجة أو مستوى لا مسألة مبدأ ؟

و أليس مثيرا للدهشة أننا رغم الشوط الطويل الذي قطعناه على طريق الحداثة ( الكاذبة) ما زلنا نتعصب للقبيلة و العائلة و نتمسك بعادة الثأر و نمجد قيمة القصاص الشخصي ؟ و أننا لا نفتأ نتحدث عن التسامح و نشيد بأخلاق العفو و التسامي على الخلافات و الاختلافات و نحن كل يوم نمارس العنف ضد من نختلف معهم بأشكال شتى صريحة و خفية.

 لقد كان نزار قباني – رحمة الله عليه – مصيبا في الواقع حين قال يصف حالة التناقض التي تعيشها مجتمعاتنا العربية:

خلاصة القضية

توجز في عبارة

لقد لبسنا قشرة الحضارة

و الروح ( جاهلية)   

أتصور الآن أنه من الضروري نشأة علم مستقل يختص برصد ظاهرة الجهل في شتى أشكالها؛ و دراستها و تحليلها من جميع جوانبها و أبعادها.

 

أضف تعليق