متى بدأ الهجوم على الإسلام؟، محمود الضبع

   يحار الباحث المدقق أمام اختلاف وتناقض الروايات عند بحثه في ظاهرة أو موضوع تاريخي في الإسلام، وهو الأمر الذي أسهمت في صياغته عوامل عدة عبر التاريخ العربي، منها: التدخل السياسي ونظام الحكم، والصراع على السلطة، وعقلية التحريم، وغياب منهجية “النقد التاريخي”، إضافة إلى الدوافع النفسية من حقد وحسد وما يترتب عليها من مؤامرات ودسائس، وأخيرا سلطة العامة في ارتكانها لما تعرف ورفضها لأي منطق عقلي يصل إلى رأي مخالف وإن كان صوابا، كل ذلك يجعل الأمر غاية في الصعوبة، لكنه أيضا غاية في الأهمية مع واقع يتردى وأحوال تزداد سوءا يوما بعد يوم في واقعنا العربي.

  متى بدأ الهجوم على الإسلام؟ ومتى بدأت عقلية التحريم تمارس دورها؟ أو بالأحرى متى بدأت فكرة التجرأ على الإسلام من بعض المسلمين؟

  مر العهد الأول في حياة الرسول عليه السلام دون أن تكون هناك محاولات للتجرأ على ما أتى به الإسلام سوى من الذين لم يدخلوا فيه (كفار قريش، وبعض ملوك البلدان الذين فقدوا ملكهم)، لكن لم يكن لذلك تأثير، ولم يتجاوز مجرد المقاومة لدين عجزت عقلية المعارضين حينها على تفهم تعاليمه وأبعاده، ورأته فرض سيادة وليس نشرا لتعاليم سماوية، ولعل مما ساعد على خفوت صوت هذه المعارضة، ذلك التوسع السريع الذي كان يحققه هذا الدين على أرض الواقع وتحقيقه لمبادئ العدالة والتسامح وهو ما كان يعني عموم الشعوب.

  غير أن عهد الصحابة رضوان الله عليهم شهد نوعا من أنواع الخلاف السياسي، وإن كان أهل السنة قد أجمعوا على وجوب الكف عما وقع بين الصحابة من خلاف حفاظا على صورة الإسلام في بدايات مسيرته بعد وفاة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، يقول ابن أبي زيد القيرواني في متن الرسالة: “وأن لا يُذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يُلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظن بهم أحسن المذاهب”، بل إن كثيرا من أئمة الإسلام من أهل السنة، يعدون الخلافات المنسوبة إلى الصحابة إجمالا مكذوبة ومدسوسة عليهم.

   إلا أن أوضح ما نتج عن هذا الخلاف هو التحزب والانقسام لجماعات، وبخاصة بعد الفتنة الكبرى (مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه)، وامتدادها إلى عهد الإمام علي بن أبي طالب، وما بعده، وقد فصل طه حسين القول في ذلك في كتابه “الفتنة الكبرى” بجزئيه.

  فقد بدأ هنا للمرة الأولى الجدل حول الإسلام، ومن قبل مسلمين، أي من الداخل وليس من الخارج، وبدأ على استحياء اتهام الفرق لغيرها، ورفض الجماعات لغيرها، وظهرت فرق الخوارج والشيعة والسنة….، واستمر الأمر. 

  ثم جاء عهد الدولة الأموية ليحدث الجدال الأكبر، بظهور قضايا خلافية تجذرت في مراحل تالية، وظلت تؤرق مسار ومسيرة الإسلام، وهي القضايا التي دار حولها التعصب وما يزال: العصمة، والصحابة، والتقية، وزواج المتعة، والميراث، إضافة إلى القضية الجوهرية وهي الخلافة وأحقية آل البيت بها، واغتصاب الأمويين لها، ورغم مرور ما يقرب من ١٤٠٠عام اليوم، فما يزال الجدل مستمرا حول هذه القضايا، وتكفي مطالعة لصفحات ومواقع الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) للوقوف على ذلك، والاتهامات المتبادلة للتكفير، وتشيع كل إلى فريقه، حتى بدون علم، لمجرد نصرة ما نشأ عليه ويعتقد أنه الصواب.

  لقد بدأ هذا الخلاف سياسيا، ولكنه انتهى جداليا في حق الإسلام ومساره، وهو ما عمل على زيادة مساحة الاجتراء على نقد الفكر الديني من المسلمين وغير المسلمين، بل زاد الأمر سوءا مع مرويات تراثية حول اتهام بعض خلفاء الدولة الأموية بالزندقة، ومنهم الوليد بن يزيد بن عبدالملك، كما حكى عنه أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني، وإن كانت هذه المرويات تحتمل الشك، لكن تذكر كثير من الكتب أن الوليد كان غارقا في الملذات، وتروى عنه في ذلك أشعار قالها تحت تأثير السكر، وأفعال ارتكبها في حق الإسلام والقرآن الكريم، وإن كانت هناك مرويات تاريخية تبرؤه وترد ذلك كله للخلافات السياسية والرغبة في الاستيلاء على الحكم من قبل أبناء العمومة والأسرة ذاتها.

  وأيما كان الأمر بشأن الوليد، فقد كان بداية النهاية للعصر الأموي إذ انتهت الدولة بعد مقتله بست سنوات كما تذكر ذلك مصادر التاريخ، والأهم هنا أنه كان بداية لنوع جديد من الخلاف في مسيرة الإسلام، وهو الخلاف الداخلي على مستوى الأسرة الحاكمة ذاتها، مما فتح الباب لجدال جديد وفتح أبواب الاتهامات على مصراعيها وأعاد كثيرا من سمات الجاهلية التي كانت قد خفتت في السنوات السابقة، وساعد على جرأة غير المسلمين من الموالي وغيرهم، ووسع من حركات الشعوبية والتحزب، مما كان له الأثر السلبي فيما بعد ليس على الحياة السياسية وحسب، وإنما أيضا على الحياة الاجتماعية والفكرية عموما، فقد نشأ علم الكلام للمرة الأولى، وهو العلم الذي بحث في الإلهيات (صفات الله والبعث والحساب والقدر..) والطبيعيات (المادة وتحولاتها والوجود والعدم …)، وبدأ الاختلاف في تفسير النصوص الدينية مما أدى لاختلاف وجهات النظر في تفسير العقائد ذاتها.

  لم تكن هذه الحركة العلمية وما صاحبها من اطلاع على الفلسفة اليونانية والأديان غير العربية هي الأزمة، ولكن كانت الأزمة في طريقة التعامل معها إذ لم يتم مناقشتها على أنها حركة فكرية يمكن استثمارها لصالح الإسلام، وإنما تعاملت معها الدولة بمنطق الاستثمار لصالح نظرية الحكم تارة، وبمنطق التكفير تارة أخرى، وتعامل معها أصحابها بمنطق التشيع لما درجوا عليه، ولا تبرأ في ذلك فرقة دون الأخرى، بل يمكن القول بأنه بدأ من هذه اللحظة فكر التكفير لدى جميع الفرق بلا استثناء.

  أما في الدولة العباسية، فقد توسعت هذه الحركات وأضيفت إليها حركات أخرى ساعدت على المزيد من الحجر على حرية الرأي، وعلى حصر الإسلام في دائرة ضيقة، وبخاصة مع التحول الذي تم من اعتماد الدولة الأموية على العرب في تسيير أمور الدولة إلى اعتماد العباسية على الفرس كاملا وبالتالي إقصاء العرب بالإجمال، وهو ما فتح الباب أمام أبناء الفارسية للاستقواء والحلم باستعادة مجدهم وملكهم ودياناتهم وعقائدهم وأفكارهم.

  وخلال المراحل الأخيرة من الدولة العباسية كانت قد نشأت حركات أخرى في الدولتين الأندلسية في إسبانيا حاليا، والفاطمية في الشمال الإفريقي ومصر، وكان الفكر التكفيري قد انتقل إلى هاتين الدولتين، بدليل ابن رشد وغيره ، ثم بدأ الوطن العربي بعدها يشهد بوادر الانهيار وبخاصة مع هيمنة السيادة العثمانية، وفرضها العزلة عليه، وتفريغه من كوادره الفنية والعلمية والثقافية لصالح عاصمتها الآستانه، ثم واصل الاستعمار وعمل على تعزيز هذه الفتن الطائفية وسياسة تكفير الجماعات لبعضها، وهو ما يتم استعادته الآن على أرض الواقع فيما يسمى بحروب الجيل الخامس.

أضف تعليق