خارج حدود الكادر، محمود الضبع

  يدرك الجميع أننا نعيش عصر الميديا والإعلام، وأننا تهيمن علينا ثقافة الصورة، فهي التي تحدد لنا ما نراه وكيف نراه، وبالتالي تتحكم في مفاهيمنا عن الحياة من حولنا، وعن إدراكنا للقضايا والأزمات التي تحيط بنا، بل تتحكم في رؤيتنا لأنفسنا أحيانا.

  ولكن، هل فكرنا يوما في حدود وأبعاد هذه الصورة التي تتحكم في وعينا؟

  منذ سنوات قليلة ومع أحداث ثورة يناير ٢٠١١م في مصر، كان الكثير من الأصدقاء عبر العالم يتواصلون معنا؛ ليطمئنوا أولا أننا ما زلنا على قيد الحياة، وأنه ما زالت هناك إمكانية لحياة الناس على الأرض، وذلك لأن حدود كادر كاميرات الإعلام التي تنقل الأحداث كانت تقتصر على نقل مشاهد الجرحى والشهداء والفوران الشعبي بما يعطي تصورا أن هذه هي الحياة في أرجاء مصر، وأن كل شيء قد انتهى.

  نفس التصور كان يصل إلينا نحن أنفسنا ـ وما يزال ـ فيما يتعلق بالحياة في سورية والعراق واليمن وليبيا وغيرها من بلدان الشعوب العربية التي طالها الخراب والدمار في السنوات السبع الأخيرة، إذ يظل المتحكم في وعينا وإدراكنا للحياة في هذه البلاد هو حدود الكادر الذي نراه، ولولا علاقاتنا الشخصية بأصدقاء من هذه البلدان وتواصلنا معهم، لتصورنا أن الحياة هناك قد انتهت وأنها تعيش حالات الدمار والانهيار الذي ينقله لنا الإعلام وتصوره لنا أفلام السينما والأفلام الوثائقية وبرامج التوك شو.

  ولعل الخطورة الحقيقية التي تترتب على ذلك ليست فقط في التوجهات السلبية التي يتبناها العالم الخارجي نحو بلادنا، ولكن أيضا ـ وهو الأهم ـ في التوجهات السلبية التي تتكون في أرواحنا نحن أبناء هذه البلدان، وبخاصة لدى الأطفال والعامة ممن لا يستطيعون تحليل المشهد، وإدراك ما هو خارج حدود الكادر، وممن يرون الأشياء على ظاهرها ولا يبحثون فيما وراءها من واقع ليس مرئيا.

  والأمر ذاته يندرج على فعالياتنا وأنشطتنا الثقافية والتعليمية والاجتماعية، إذ يقتصر الاهتمام دوما على الصورة التي سيتم تصديرها للإعلام وليس على واقع وأهمية ونتيجة ما يحدث، فالاهتمام دائما في كل مؤتمر وملتقى وفعالية هو صورة الافتتاح، والذي يتم الاهتمام به في النزول إلى واقع مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا هو الصورة التي يتم الترتيب لها قبل التقاطها بأسابيع، وقد تدفع المسؤول لأن ينفق من جيبه لوضع الرتوش التي تجمل هذه الصورة بما يجعلها دالة على النجاح الوهمي الخادع.

  لم يسبق لي أن قرأت أو سمعت أو رأيت متابعة لحدث أو فعالية أو مشروع بعد الافتتاح بعدة أسابيع، وعدة أشهر، وعدة سنوات، لأقف على تطور الوضع وتقييم الواقع الفعلي والصعوبات والمعوقات والنتائج وغيرها مما تقتضيه طرق الإدارة العلمية المعمول بها في الشرق والغرب.

  ليس مهما أن نناقش هنا مصداقية الإعلام من عدمه، فهو في النهاية ينقل الصورة التي تم تصديرها من قبل صانعي الحدث، ولكن المهم أن نناقش تراكم التوجهات السلبية التي تتكون في نفوس أبناء شعوبنا، وبالتالي تعمل شيئا فشيئا على فقد انتمائهم وولائهم لمؤسساتهم التي يعملون بها، ولبلادهم التي يعيشون فيها، ولموروثاتهم التي نشأوا عليها، والتي تتهمهم دولهم بأنهم تخلوا عنها وفقدوها، ولا تعلم هذه الدول أنها هي المتسبب الأول في فقدان أبناء هذه الشعوب لهويتهم وضعف صلات تواصلهم مع ثقافتهم، لأنها اهتمت بحدود الكادر، ولم توجه اهتمامها لما يحيط به من واقع متردي وثقافة مأزومة وتعليم لا يسمن ولا يغني من جوع، وغياب الرؤى التي تحدد مسارات وتوجهات لبناء شعوبها.

  هل يغفل أحد حجم التراجع الذي تشهده الشعوب العربية في واقعها الفعلي وليس في صورتها الإعلامية التي صدرها المسؤولون ثم صدقوها على طريقة صناعة النموذج ثم عبادته كما تحيل إليه الأساطير القديمة، وعلى طريقة مرض الميثومانيا النفسي “Mytomanie” الذي يشير إلى نموذج من يكذب ويصدق كذبه، وفي هذا يقول كلود بيلان (اختصاصي علم النفس الاجتماعي): “الميثوماني شخص لا يريد أن يخيب آمال المحيطين به، فيدفعه ذلك للمبالغة فيما يقول، حتى يستجيب لما ينتظره الآخرون منه”.

  نحن أمة تعيش حدود الكادر، وتوهم نفسها بأن كل شيء على ما يرام، وأنها تصنع أفضل ما يكون، وهي محقة في ذلك تماما، لأنها لم تعد تحتكم إلى المعايير العلمية والأسس المنهجية في إدارة شؤونها، وإنما تعتمد على صورة هي تعلم تماما أنها اجتزأت الواقع لصناعة الكادر، ولكن يروق لها ذلك، فما دامت العلمية غائبة من أساسها، إذا لا ضير من استمرار المسيرة.

  لكن الذي لا يعلمه صانعوا هذه الصورة والمتحكمون في إطار الكادر أن كثيرا من أبناء الشعوب العربية يدركون أبعاد الكادر وليس حدوده، ويعرفون تماما أن الواقع أوسع بكثير مما يتم تصديره إليهم، وأن الحياة الآن لم تعد خاضعة لمفهوم المنع والحجب والتحكم في عصر السماوات المفتوحة والآفاق العالمية غير المحدودة، وأن المستقبل يفرض تحديات جديدة في عالم خارجي يزداد شراسة ويدرك كيف يوظف حدود الكادر لتحقيق أهدافه.

  لم يعد هناك من سبيل سوى مواجهة واقعنا ومعطياتنا والعودة للاهتمام بالتعليم والثقافة والوعي واستثمار عقول البشر للإنتاج، والاعتماد على الكفاءات العلمية لبناء المجتمعات، والاهتمام بما يحيط الكادر وليس بما يتم تصديره عبر الكادر.

أضف تعليق