الحالة الثقافية لمصر قبل وبعد ثورة ١٩١٩م، محمود الضبع

  نشطت في مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حركة فكرية اعتمدت على محورين أساسيين هما التعليم والثقافة، حيث تعددت في هذه المرحلة أشكال التعليم، ولم تعد تقتصر فقط على التعليم الديني عبر الكتاتيب والأزهر الشريف، وإنما أضيفت إليها مدارس المعلمين والمعلمات، والمدارس التي أنشأها النازحون من بلاد الشام على إثر الفتنة الطائفية التي بدأت ١٨٦٠م (في لبنان ودمشق)، والمدارس الأهلية (مطلع القرن العشرين)، وهو ما كان له الأثر في تنويع محتوى التعليم، وانفتاحه على العلوم التطبيقية (الهندسة والصيدلة والجغرافيا) والآداب المعاصرة، بعد أن كانت تقتصر على العلوم الدينية وبعضا من الآداب التراثية والأدب الفارسي.

  ولا يمكن قراءة الحالة الثقافية لهذه المرحلة دون التوقف أمام محطة الدوريات والصحف التي بدأت مع مجلة “يعسوب الطب”، وصحيفة “وادي النيل” ١٨٦٦م، ثم نزهة الأفكار، وروضة المدارس، والمقتطف١٨٧٦م، إذ لم يكد ينتهي هذا القرن حتي بلغت الصحف والمجلات (١٧٠) مائةً وسبعين دورية اهتمت بالشئون السياسية والاجتماعية والأدبية والثقافية لمصر والمجتمع العربي، ومن بينها العديد من المجلات النسائية.

  هذه الدوريات أسهمت بشكل مباشر في الاطلاع على الآداب والفنون الغربية، وبدأت معها المحاولات الأولى للكتابة الأدبية العربية في الرواية والقصة والمسرح (مسرحية “الهوى والفؤاد” لزينب فواز ١٨٩٢م، ثم روايتها غادة الزاهرة أو حسن العواقب ١٨٩٩م).

  وبالإجمال يمكن قراءة حركة الكتابة والتأليف لهذه المرحلة عبر ثلاثة مسارات، أولها، محاولة استعادة الماضي الثقافي العربي بعد القرون الأربعة التي فرض فيها العثمانيون العزلة، وما ترتب على ذلك من انتشار للجهل والخرافة وغياب الهوية.

  وثانيها حركات الإصلاح السياسي والفكري التي بدأت بوادرها مع عودة رفاعة الطهطاوي من فرنسا ١٨٣١م، ثم تبلورت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالله النديم، وصاحبها تأسيس مجلات (روضة المدارس، والعروة الوثقى، والأستاذ في نهاية القرن ١٩م).

  وثالثها، بوادر النهضة الفكرية غير المعنية بالشؤون السياسية، وإنما بمناقشة القضايا الاجتماعية ومعالجة سلبيات المجتمع، وإلى هذه الأخيرة تنتمي كل الأعمال الفنية والفكرية والأدبية الصادرة في هذه المرحلة.

  ففي مطلع القرن العشرين شهد فن الرواية حراكا غير مسبوق بدأ مع رواية “الفتى الريفي” لمحمود خيرت ١٩٠٤، و”القصاص حياة” لمحمود خضر البوقرقاصي ١٩٠٥، و”عذراء دنشواي” لمحمود طاهر حقي ١٩٠٧، و”خطبة الشيخ” لطه حسين ١٩١٣(التي بدأ نشرها مسلسلا في مجلة السفور بدءا من عام ١٩١٦م) ، ثم رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل المنشورة عام ١٩١٤ بتوقيع “الفتى الريفي”.

  وشهدت الفنون تجارب رائدة في هذه المرحلة، منها تجربة “منيرة المهدية” التي تعد أول ممثلة مسرحية مسلمة تعتلي خشبة المسرح في تاريخنا العربي، وهو الأمر الذي أثار العديد من الجدل، وأحدث حراكا فكريا أسهمت فيه الكثير من شرائح المجتمع كان الغالب الأعم عليها هو الرفض والتحريم، وبخاصة مع هجوم رجال الدين على هذه الظاهرة التي رأوها نهاية للزمان وعجيبة الأعاجيب، ويمكن في ذلك مراجعة هجوم الشيخ “سعيد الغبرة” على ظهور المرأة مسرحيا أمام الرجال، في صحف ودوريات هذا العصر.

  أخلصت منيرة المهدية لوعيها وواجهت ذلك جميعه بالتفكير لإنشاء فرقتها المسرحية عام ١٩١٤م، مع الاستعانة بـ “بشارة واكيم” مديرا للفرقة، وهو الممثل المعروف ذائع الصيت حينها، وعلى الرغم من ظروف الحرب العالمية الأولى التي نشبت في العام ذاته، وطالت كل دول العالم ومنها مصر، وعلى الرغم من صراع الشهرة بينها وبين أم كلثوم (سيدة الغناء العربي) الصاعدة بقوة في هذه الآونة، إلا أن المهدية واصلت مسيرتها في الإخلاص لوعيها تجاه قضية المرأة عموما، وفي التأسيس لوعي سيتحقق لاحقا مع انتشار الكتابة المسرحية للمرأة وعن المرأة كما شهدت المرحلة التالية لثورة ١٩١٩م.

  أما فن السينيما الذي بدأ ظهوره في مصر منذ عام ١٨٩٥ بعرض الفيلم الصامت للأخوين لوميير (في الإسكندرية والقاهرة وبورسعيد)، ثم بتأسيس محمد كريم شركة لصناعة الأفلام ١٩١٧، أنتجت أول فيلمين روائيين “الأزهار الميتة” و”شرف البدوي”، عرضا في الإسكندرية أوائل ١٩١٨م.

من جانب آخر كانت هناك حركة فكرية تتشكل للمرة الأولى في تاريخ الثقافة العربية قادها الثلاثي طه حسين وأحمد حسن الزيات ومحمود الزناتي، فكونوا جماعة شغلت نفسها بنقد الأزهر وقراءة كتب ودواوين الشعر القديم والحديث، إلى جانب تلمذتهم على يد الإمام محمد عبده الذي علمهم التمرد على طرائق الاتباعيين آنذاك، وقد أسفرت هذه المرحلة عن طرد طه حسين من الأزهر الشريف ولم يعد إليه إلا بعد أن تدخل أحد شيوخه الكبار، غير أنه ما لبث أن عاد للتبرم من دروس الشيوخ الاتباعيين – كما أسماهم– واقتصر على حضور دروس قليل منهم مثل الشيخ بخيت، واتجهت أنظاره نحو فروع المعرفة التي لم يكن الأزهر الشريف يوليها عناية، والتقى معه في هذا التوجه الشيخ حسين المرصفي (أستاذ البارودي وشوقي والزيات)، فبغضا سويا طرائق التدريس في الأزهر، وأحبا الحرية والنقد وروح التمرد..

  ويأتي العام ١٩٠٨م فاتحة خير على الجميع بافتتاح جامعة فؤاد الأول (الجامعة المصرية لاحقا)، والتي كانت تدرس الحضارة الإسلامية (علي يد أحمد زكي باشا)، والتاريخ والجغرافية وبعض اللغات الشرقية (حبشية، سريانية، عبرية)، والحضارة المصرية القديمة، والفلك، والأدب، والفلسفة، وغيرها من العلوم التي كان يقوم على تدريسها أساتذة مصريين وأجانب.

  وحصل طه حسين على درجة الدكتوراه الأولى في الوطن العربي (مايو ١٩١٤م) حول أبي العلاء المعري، وهو ما أثار ضده الضجة الهائلة التي اتهمته بالكفر والإلحاد بسبب كتابه (الصادر عن رسالته للدكتوراه)، وطالب أحد أعضاء البرلمان بحرمانه من درجته الجامعية، لولا تدخل سعد زغلول وجعلها معركة برلمانية للدفاع عن طه حسين، وللثورة ضد ما أسماه الطرق المعوجة في الفهم والمناهج القديمة في التفكير، وكانت الأزمة قد بلغت غايتها عند طه حسين، وضاقت عليه الأحوال، لولا هذا التدخل من قبل سعد زغلول، ثم سفره إلى فرنسا.

  أما الزيات الذي حصل على درجة الليسانس عام ١٩١٢م، وعمل مدرسا بالمدارس الأهلية التي كان قد بدأ انتشارها، والتقى عام ١٩١٤ بعدد من الأصدقاء الذين قادوا الحركة الفكرية في مصر بعد ثورة ١٩١٩م، مثل المازني، وأحمد زكي، والعقاد، ومحمد فريد أبو حديد، وتزعموا حركة وطنية لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، وكتب الزيات منشورات سرية كانت تصدرها الجمعية التنفيذية للطلبة في أثناء ثورة ١٩، وهذا ما يفسر اشتراك المدراس وخروج الطلاب والطالبات للمشاركة في الثورة آنذاك.

  كان المناخ ثريا إذا قبل ثورة ١٩١٩م التي لم تنشأ من فراغ، ولم تكن الأحداث السياسية هي المتسبب فيها والحاضن لها فقط، وإنما كانت البيئة مهيئة فكريا وثقافيا من خلال التعليم الذي قادته المدارس الأهلية والجامعة المصرية، والتثقيف الذي قادته الصحف والمجلات (الدوريات)، وإن كان هذا جميعه لا ينفي ولا يقلل من شأن ثورة ١٩ وتأثيرها على تدعيم الحرية الفكرية ودعم الوعي الثقافي الذي شهد انفجارا صاحب الثورة، وأعقبها في السنوات التالية.

  ففي العام ذاته وضع أحمد السكندري ومصطفى عناني موسوعة الوسيط في الأدب العربي، والذي قررته وزارة المعارف العمومية بدءا من عام ١٩١٩م على المدارس الثانوية، والمعلمين السلطانية، والمعلمين الأولية، والمعلمات السَنِية.

  وترجم الزيات “آلام فرتر” لجوته عام ١٩٢٠م، ثم رواية “روفائيل” للامارتين ١٩٢٥، وأنشأ مجلة الرسالة بدءا من يناير ١٩٣٣م ، بما قدمته من نتاج فكري للأعلام الكبار.

  وكان المثَّال الرفيع محمود مختار قد بدأ منذ العام ١٩١٨ في نحت تمثال نهضة مصر، وتم عرضه في معرض الفنون الجميلة السنوي في باريس عام ١٩٢٠، وعندما زار سعد زغلول ورفاقه هذا المعرض كتبوا إلى مصر يشجعون على إقامة التمثال في القاهرة، واتخذ بذلك مجلس الوزراء قراره في يونيو ١٩٢١، وتم عمل اكتتاب شعبي لإقامة التمثال الذي انتهى في عام ١٩٢٨م، وإن كان محمود مختار قد سخر موهبته لخدمة الحركة الوطنية بعد ثورة ١٩١٩معبرا بتماثيله عن مرحلة النهضة والبحث عن الشخصية المحلية. 

  وبدأ الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة بموجب تصريح فبراير ١٩٢٢م، وتم وضع دستور جديد للبلاد صدر في ١٩ إبريل ١٩٢٣م بديلا عن قانون النظام لسنة ١٩١٣م (وضعت هذا الدستور لجنة مكونة من ثلاثين عضوا مثلوا الأحزاب السياسية والحركات الوطنية والزعامات الشعبية، وعلى رأسها عبدالخالق ثروت)، ونص على أن حكومة مصر “ملكية وراثية وشكلها نيابي”.

  وازدهرت الصحافة المصرية عقب الثورة فبلغت نحو ١٩ صحيفة كانت معظمها ملكا خالصا للمصريين، وازدهرت صحافة النقد السياسي الساخرة، وكان من أهم منجزات دستور ١٩٢٣ ما كفله من حرية للرأي والصحافة، مما فتح الباب على مصراعيه للدوريات والصحف التي تزايد عددها بشكل ملحوظ.

  وازدهرت الفنون والآداب فتم إنتاج فيلم “الخالة الأمريكية” من إنتاج وتمثيل فوزي منيب ١٩٢٢م، وفي العام ذاته كوَّن بديع خيري مع سيد درويش فرقة مسرحية، وكتب لها “الطاحونة الحمراء” وتم عرضها في نهاية العام بتمثيل نجيب الريحاني، واتجه بديع خيري إلى كتابة الأوبريت لتقديمه على المسرح، وهو ما لاقى القبول الجماهيري، فقدم بدءا من ١٩٢٣م عددا من الأوبريتات: “الليالي الملاح”، و”الشاطر حسن”، و “مجلس الأنس”، و”البرنسيس” الذي عالج فيه قضية العلاقة بين الطبقة الوسطى والطبقة الأرستقراطية، وناقش ضرورة وجود قانون يناقش العلاقة بين طبقات المجتمع، وكان للمرأة نصيب في توجيه الوعي نحو علاقتها بكلا المجتمعين.

  كما أنتج أمين عطالله أربع مسرحيات بين عامي ١٩١٩، ١٩٢٠، على مسرح كونكودريا وماجيستيك بالإسكندرية، وهي : صباح الخير، المجنون، القضية نمرة ١٤، صندوق الدنيا، إضافة لمسرحيتين في فرقة عطالله وشامبير هما : نعيما، وعواطف الزوجة ٢٧.

  وفي عام ١٩٢٤م أعادت منيرة المهدية تكوين فرقتها من جديد بعد مرحلة توقف كبيرة، وكان الجديد في هذه المرة هو النص المسرحي الذي كتبه “بديع خيري” خصيصا للفرقة بعنوان “الغندورة”، أو (قوت القلوب كما تغير اسمه بعد ذلك)، وتم عرضه في إبريل ١٩٢٥م على مسرح تياترو برنتانيا في القاهرة، وفي العام ذاته يخرج للنور أوبريت “حورية هانم” الذي مثلته منيرة المهدية أيضا كما أشارت إلى ذلك جريدة “كوكب الشرق” آنذاك.

  ثم يأتي العام ١٩٢٧م لتعرض فرقة الكسار ثلاث مسرحيات من تأليف بديع خيري وتلحين الموسيقار زكريا أحمد (الحساب، وبدر البدور، وزهرة الربيع)، ثم في العام التالي عرضت له فرقة الريحاني مسرحيات: جنان في جنان، وابقى اغمزني، وآه من النسوان، والتي تناقش قضية الزواج من الأجنبيات وآثاره السلبية على المجتمع المصري ليس فقط في محيط الأسر والأجيال الحالية، ولكن أيضا على مستوى الأجيال القادمة.

  وتتابعت حركة الإنتاج المسرحي والسينيمائي بإنتاج فيلمي “قبلة في الصحراء” و”ليلى” بطولة عزيزة أمير (أول ممثلة مصرية)، وفيلم “أولاد الذوات” عام  ١٩٣٢ بطولة يوسف وهبي وأمينة رزق، وأنشئ ستوديو مصر عام ١٩٣٥، إضافة إلى المسارح واشتهر شارع عماد الدين باسم “شارع الفن”.لقد كانت ثورة ١٩ بوابة لعبور مصر أسهمت في بناء الوعي العام وازدهار الآداب والفنون والحركات الفكرية عموما، ويكفي أن نشير في ذلك إلى تأثيرها على العقاد الذي شارك فيها ودافع لاحقا عن الدستور الناتج عنها ضد الملك ووضع كتابه (سعد زغلول سيرة وتحية)، وتوفيق الحكيم الذي عايش الثورة وجسد فكرها في “عودة الروح”، ومي زيادة التي أسهمت بالتظاهر والخطابة والدعوة لحرية المرأة، وعميد الأدب العربي طه حسين الذي انطلقت كتاباته التنويرية لنقد الفكر التربوي والمناهج التعليمية والتراث العربي، ونجيب محفوظ الذي تأثر بها في كتاباته (قشتمر وغيرها)، وهكذا لم يتوقف تأثير ثورة ١٩ فكريا وثقافيا حتى الآن.

أضف تعليق