الأفق العربي والهجومية، محمود الضبع

  ربما لا يمكن الإنكار أن الهجوم طبع متأصل، وجوهر حياة في الكائنات المتحركة، لا يختلف في ذلك الإنسان عن الحيوان عن الحشرات والزواحف بل والنباتات والأشجار، سواء أكانت هذه الهجومية من بني الجنس (في هجوم إنسان على إنسان، أو حشرة على أخرى من فصيلتها) أو كانت هجوما خارجيا مثل هجوم حيوان على إنسان والعكس، أو هجوم حشرة على نبات والعكس، أو هجوم الطبيعة على الكائنات…. إلخ.

  وعلى مر التاريخ تميز الإنسان عن بقية الكائنات الأخرى بالقدرة على استخدام عقله في إدارة هذا الهجوم أو صده، فسعى إلى تأمين الحياة ضد الهجوم الداخلي أو الخارجي، وسعى إلى تطوير أسلحة هجومية تساعده على مواجهة المهاجم، ولم يتوقف في ذلك عند حدود، إلى الدرجة التي جعلته يعبث بقوانين الطبيعة ذاتها، ما أدى إلى الإضرار بالبيئة، مثل قطع الأشجار؛ لبناء المنازل؛ وإقامة السدود في مواجهة قوى الطبيعة، وإحراقها للحصول على النار وتحويلها لفحم، أو في استغلاله لكل المواد المتاحة في البيئة من حوله؛ ليطور من خلالها أسلحته ليتقي بها شرا أو يهجم بها محدثا هو الشر، وشيئا فشيئا فقد الإنسان الكثير من ملامح الإنسانية التي عاش عليها لقرون من تقديس لعناصر الكون والبيئة من حوله (التربة والأنهار، والنباتات والأشجار وكل المساحات الخضراء، والحيوانات والطيور…إلخ)، فقد هذا التقديس للطبيعة وتحول للهجوم عليها وانتهاكها واغتيالها سواء على أرضه، أو على أرض الغير لدوافع سياسية.

  فهل تخلص الإنسان من سياسته الهجومية وأخلص للسياسة الدفاعية ضد قوى الطبيعة؟ 

  لعل تقرير التنمية البشرية للعام ٢٠١٤م يتضمن في عنوانه ما يشير لذلك “المضي في التقدم: بناء المنعة لدرء المخاطر”، حيث يطرح أخطار المستقبل والقدرة على الاستعداد لها، وبخاصة ما يتعلق منها بالتنمية البشرية في المخاطر على الأفراد، وتأمين الحياة الاجتماعية، والاحتواء الاجتماعي، وبناء قدرات الجهوزية للأزمات والتعافي منها.

فأين نقف نحن العرب من ذلك؟ هل نستطيع بناء تصور عقلي ولو محتمل عن هذا الهجوم الذي ألفناه على تراثنا وحياتنا وتقاليدنا؟ هجوم نمارسه جميعا في رفض ما كان يربطنا بهويتنا العربية من مأكل وملبس وفكر وأساليب حياة، ناهيا عن عادات وتقاليد وقيم ومفاهيم.

أو هل نستطيع البحث عن بديل معاصر لملامح هذه الهوية في ارتباطها بالواقع الذي نعيشه، وبالتالي نتمكن من الحفاظ على ما تبقى لدينا من قيم وتقاليد وأشكال حياة يمكن تطويرها لتتناسب مع المعاصرة، مع قدرتها الفاعلة على الاحتفاظ بتلك الهوية؟

هل نستطيع بناء هذا التصور العقلي عن واقعنا لنتمكن من بناء التصور الأهم عن المستقبل والأخطار التي تتهددنا، لو استمر بنا الحال على هذا المنوال، الذي نحن ماضون فيه وبكل قوة؟

نحن أمة في خطر، والخطر يكمن في هذا التصور العقلي، أو ما يمكن تسميته “الوعي العربي العام”، ذلك الوعي الذي يقتضي بذل المزيد من الجهود لإعادة بنائه قبل أن يتدهور به الحال أكثر مما هو عليه، ويتزايد هجومه على ماضيه وتراثه وفنونه وآدابه وهي العناصر المشكلة لهويته، وعلى الجماعات الأخرى ممن لا ينتمي هو إليهم، ولننظر في واقعنا العربي إلى هجوم الجماعات المنتمية لأيديولجيا فكرية أو عقيدة ما على الجماعات الأخرى ممن لا ينتمون إليهم .

ليس أمامنا سوى بذل المزيد والمزيد من الجهود، في مسار الاهتمام بالتعليم والتثقيف والإعلام، فإصلاحهم سيصلح وعي المجتمع ويوقف هجوميته على هويته العربية، وصلاح الوعي سيحقق التنمية والتقدم، ويقلل الأمراض، ويمنع الجريمة، ويحد من الإرهاب إن لم يكن يمنعه، ويحوِّل نمط الاستهلاك إلى نمط إنتاج، وبالتالي يخفف عن كاهل الدولة، ويرفع من مستويات التنمية إجمالا بما يصل بها لمتطلبات العصر .

يرى البعض أن الملف الاقتصادي هو الأولى بالعناية في اهتمامات الدول، ولكن ماذا لو حدثت طفرة ونمو في اقتصادياتنا العربية ـ مثلا ـ؛ فامتلكت شرائح عديدة من المجتمعات الأموال الزائدة عن حاجتها؟ هل كانت ستنفقها على تطوير المجتمع وعدم الإضرار به، أم في الهجوم على الهوية وتراثها وحاضرها، أو في أحسن الأحوال على الخاص وليس العام؟، ولعل تجربة النصف الثاني من القرن العشرين خير دليل على عدم استثمار الأموال العربية في تطوير الحياة والدخول بها إلى عالم الإنتاج، وإلا ما كان حال الوطن العربي على ما هو عليه الآن في مواجهة العالم المتقدم شرقا وغربا، فماذا لو كان الاهتمام بالتعليم والتثقيف والوعي هو الهدف الذي سعت إليه الأموال العربية؟ وكيف سيكون موقعنا في مصاف دول العالم الآن؟.

نحن أمة هجومية، احترفت الهجوم على مظاهر الجمال التي كانت تميزها من أشكال معمارية إلى أزياء وملابس إلى تقاليد وموروثات وحياة اجتماعية، فصارت المدن التي أنشأناها لا علاقة لها بملامح ثقافتنا لا من قريب ولا من بعيد، وصارت منتجاتنا تفقد ملامحها التي كانت عليها بدءا من تشكيل معدن الذهب الذي نمتلكه، ومرورا بطعامنا وشرابنا، وانتهاء بأدوات نومنا.

نحن أمة هجومية، مارسنا الهجوم على ثقافتنا وتراثنا، واستوردنا بدلا عنهم نظريات أفكار غربية في كل مجالات علومنا الإنسانية والتطبيقية، كان لدينا الكثير مما يمكن تطويره في اللغة والأدب والفلسفة والفنون والعمارة والطب والهندسة والجغرافيا والتخطيط والتنمية البشرية، تخلينا عن ذلك المنجز جميعه شيئا فشيئا واعتمدنا الفكر الوارد، واختزلنا علمنا في علوم الدين التي لم نطورها هي الأخرى لتتناسب وتحولات الحياة من حولنا، مما جعلها اليوم محل اتهام بالتشدد والتأخر والإرهاب، ووضعها في مجال صراع للدفاع عن النفس بدلا من نيل المكانة العليا بالانتماء إليها، جعلنا علوم الدين عاطفية وليست فكرية أو متوازنة بين كليهما، وكم من قائل يقول هنا: “أمرتنا الديانات السماوية بالتفكر وإعمال العقل”، وهي بالفعل كذلك لكن الواقع الفعلي ليس كذلك بالمرة .

 مارسنا هذا الهجوم دون عقل قادر على التمييز بين الجيد والردئ، والبناء والهدم، مارسناه بعاطفية دون احتكام إلى العقل، غررت بنا النعرات التي توارثناها عبر الأجيال، وارتكنا إلى مقولات جاهزه حول كوننا خير أمة أخرجت للناس، وأننا أصحاب الدين الحنيف، والرسالة السماوية الخاتمة لكل الديانات، وأنه مهما دار الزمان وتقلبت الأحوال فالغلبة لنا.

  ألم يأن للعقل العربي أن يتحرر من أوهامه وينظر حوله ليرى أين يقف، وكيف آلت إليه أحواله؟

  ليس هناك من سبيل لذلك سوى طريق أوحد، وهو الاشتغال على العقل بتعليمه وتثقيفه وبنائه وتحريره من القيود العديدة التي تحيط به، والمحظورات التي تمتنع عليه، وذلك في إطار رؤية يحكمها الإطار العام للدولة كما فعلت كثير من الشعوب، ولم يكن لذلك خطر على الدين كما كان يكمن في التصور، إذ يعتقد كثير من العرب بأن تحرير العقل العربي خطر على الدين، وتشبه بالحضارات المعاصرة في انحرافها، وليتهم يقرأون هذه الحضارات من الداخل، لاستعادو مقولات المجددين أمثال الأفغاني ومحمد عبده في شهادتهم لهذه الشعوب بتمثل صميم الدين ودعوته للالتزام.

أضف تعليق